[ ص: 80 ] 803 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الضرير في بصره ، هل عليه حضور الجماعات كما على من سواه ممن لا ضرر ببصره ، أم لا ؟
5082 - حدثنا ، قال : حدثنا إسماعيل بن يحيى المزني ، قال : حدثنا محمد بن إدريس الشافعي ، قال : سمعت سفيان بن عيينة ، يحدث عن الزهري ، عن محمود بن ربيع عتبان بن مالك ، قال : قلت : يا رسول الله ، إني رجل محجوب البصر ، وإن السيول تحول بيني وبين المسجد ، فهل لي من عذر ؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هل تسمع النداء ؟ " فقال : نعم . فقال : ما أجد لك عذرا إذا سمعت النداء . قال سفيان : وفيه قصة لم أحفظها .
قال : سمعت أبو جعفر المزني يقول : قال : ولم أره استجلس الناس في حديث قط إلا هذا ، وحديثه: " يا بقايا العرب " ، [ ص: 81 ] وكان الشافعي سفيان يتوقاه ويعرف أنه لا يضبطه .
5083 - قال : سمعت أبو جعفر يقول : قال المزني : وقد أوهم فيه فيما نرى ، والدلالة على ذلك - والله أعلم - أن الشافعي أخبرنا ، عن مالكا ، عن ابن شهاب ، محمود بن الربيع عتبان بن مالك كان يؤم قومه ، وهو أعمى ، وأنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنها تكون الظلمة والمطر والسيل ، وأنا رجل ضرير البصر ، فصل يا رسول الله في بيتي في مكان أتخذه مصلى . فجاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أين تحب أن أصلي ؟ " . فأشار له إلى مكان من البيت ، فصلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم أن .
قال : فكان في هذا الحديث مما أضيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال أبو جعفر لعتبان لما أعلمه أنه سمع النداء : " ما أجد لك عذرا " ، يعني في ترك حضور الصلوات في الجماعات ، غير أن هذا المعنى لم نجده في غير هذا الحديث من رواية عن سفيان غير . الشافعي
5084 - وقد حدثناه ، قال : حدثنا يونس ، عن سفيان ، قال : عن الزهري ، إن شاء الله : محمود عتبان بن مالك الأنصاري كان رجلا محجوب البصر ، وأنه ذكر [ ص: 82 ] للنبي - صلى الله عليه وسلم - الخلف عن الصلاة ، فقال : هل تسمع النداء ؟ " قال : نعم . فلم يرخص له أن .
وقد وجدنا هذا الحديث أيضا من رواية عقيل ، عن موافقا لما رواه الزهري مالك ، عن ، ومخالفا لما رواه الزهري سفيان عن . الزهري
5085 - كما حدثنا ، قال : حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثني عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، عن عقيل بن خالد ، قال : أخبرني ابن شهاب : أن محمود بن الربيع الأنصاري عتبان بن مالك - وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا من الأنصار - :
قال عتبان : فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر حين ارتفع النهار ، فاستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذنت له ، فلم يجلس حتى دخل البيت ، ثم قال : أين تحب أن أصلي ؟ فأشرت إلى ناحية من البيت ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقمنا ، فصففنا ، فصلى ركعتين ، ثم سلم أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، قد أنكرت بصري ، وإني أصلي لقومي ، فإذا كانت الأمطار ، سال الوادي الذي بيني وبينهم ، لم أستطع أن آتي مسجدهم ، فأصلي لهم ، فوددت يا رسول الله أنك تأتي فتصلي في بيتي ، فأتخذه مصلى . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " سأفعل إن شاء الله " . .
[ ص: 83 ] فعاد هذا الحديث منقطعا ، فلم يكن مما يحتج في هذا الباب بمثله .
ثم نظرنا : هل روي في هذا الباب غير هذا الحديث . ؟
5086 - فوجدنا قد حدثنا ، قال : حدثنا يوسف بن يزيد يعقوب بن إسحاق بن أبي عباد ، قال : حدثنا ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن عاصم ، عن زر بن حبيش ، قال : عمرو بن أم مكتوم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول [ ص: 84 ] الله ، إني شيخ ضرير البصر ، شاسع الدار ، ولي قائد لا يلائمني ، وبيني وبين المسجد شجر وأنهار ، فهل لي من عذر أن أصلي في بيتي ؟ فقال : هل تسمع النداء ؟ " قلت : نعم . قال : " فأتها .
قال : فكان هذا الحديث من أحسن ما وجدناه في هذا الباب ; لأن أبو جعفر قد سمع من زر بن حبيش ، ومن عمر بن الخطاب ، فليس بمستنكر منه سماع هذا الحديث من أبي بن كعب ; لأنه قد بقي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وحضر فتح القادسية ، وكان حامل الراية يومئذ لأهلها . ابن أم مكتوم
[ ص: 85 ] ووجدنا في هذا الباب أيضا .
5087 - ما قد حدثنا ، قال : حدثنا ابن أبي داود ، قال : أخبرنا أبو عمر الحوضي ، قال : حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن شداد ، قال : عبد الله بن أم مكتوم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد ، فرأى في الناس رقة ، فقال : إني لأهم أن أجعل للناس إماما ، ثم أخرج ، فلا أقدر على رجل تخلف في بيته عن الصلاة ، إلا أحرقت عليه ". فقلت: يا رسول الله ، إن بيني وبين المسجد نخلا وشجرا ، وليس كل حين أقدر على قائد ، أفأصلي في بيتي ؟ قال : " تسمع الإقامة ؟ " قلت : نعم . قال : " فأتها .
[ ص: 86 ] قال : فطعن طاعن في إسناد هذا الحديث ، ونفى أن يكون سماعا لعبد الله بن شداد من ، فتأملنا ذلك ، فوجدنا ابن أم مكتوم قد سمع من عبد الله بن شداد ، ومن سمع من عمر بن الخطاب عمر كان غير مستنكر منه سماعه من . ابن أم مكتوم
وذكر بعض الطاعنين في إسناد هذا الحديث : أن قد رواه عن شعبة حصين ، فخالف عبد العزيز فيه ، وذكر .
5088 - ما قد حدثنا عبد الغني بن أبي عقيل ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد الرصاصي ، قال : حدثنا ، عن شعبة ، عن حصين بن عبد الرحمن : عبد الله بن شداد بن الهاد قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن بيني وبين المسجد أشياء ، وربما وجدت قائدا ، وربما لم أجد قائدا . قال : " ألست تسمع النداء ؟ فإذا سمعت النداء فامش إليها " . ثم سأله رجل آخر عن مثل ذلك ، فقال : " إذا سمعت النداء فآذن " . وما رخص له ، ثم قال : لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ، ثم آتي أقواما لا يشهدون الصلاة ، فأحرق عليهم ابن أم مكتوم أن .
قال هذا الطاعن : فهذا إنما روى هذا الحديث عن شعبة حصين ، فقال فيه : إن ، ولم يقل فيه كما قال ابن أم مكتوم عبد العزيز : عن . ابن أم مكتوم
فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل - وعونه : أنه قد يحتمل [ ص: 87 ] أن يكون ذلك من اختلاف شعبة وعبد العزيز على حصين ; لأن حصينا حدث به مرة هكذا ، ومرة هكذا ، وكل واحد من ومن شعبة عبد العزيز إمام حافظ حجة ، ممن إذا تفرد بشيء كان مقبولا منه ، ومن كان كذلك وجب أن يكون ما روى مما قد خولف فيه بمثل ما قد ذكرنا ، لا يحمل على الوهم منه ، فيما روى ، ما لم تقم الحجة بذلك .
5089 - وقد وجدنا في هذا الباب أيضا ما قد حدثنا ، قال : حدثنا أبو أمية قال : حدثنا سعيد بن سليمان - يعني الواسطي - إسحاق بن سليمان - يعني الرازي - قال : حدثنا عن أبو سنان - يعني سعيد بن سنان الشيباني المعروف بالقزويني - ، قال : حدثني عمرو بن مرة أبو رزين ، عن ، قال : أبي هريرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني رجل ضرير ، شاسع الدار ، وليس لي قائد يلائمني ، أفلي رخصة أن لا آتي المسجد ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا ابن أم مكتوم جاء .
[ ص: 88 ] فطعن طاعن في إسناد هذا الحديث أيضا بأن قال : قد رواه عن شعبة ، عن عمرو بن مرة ابن أبي ليلى ، ولم يتجاوزه به .
5090 - وذكر ما قد حدثنا ، قال : حدثنا بكار بن قتيبة ، قال : حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، قال : سمعت عمرو بن مرة ، يقول : ابن أبي ليلى كان رجل منا ضرير البصر ، فقال : يا رسول الله ، إن بيني وبين المسجد نخلا . فقال رسول الله : " أتسمع النداء ؟ " فقال : نعم . قال : فإذا سمعت النداء فآذنه . قال : فدل ذلك أن أصل هذا الحديث إنما هو عن ، عن عمرو بن مرة ابن أبي ليلى منقطعا ، لا عن عمرو ، عن أبي رزين ، عن . أبي هريرة
فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - جل وعز وعونه - : أنه قد ذهب عليه في هذين الحديثين ما لم يكن ينبغي له مع ذلك أن يعجل بما عجل به فيهما ; لأن حديث ، عن شعبة عمرو ، عن ابن أبي ليلى فيه : [ ص: 89 ] قال : كان رجل منا ضرير البصر ، فكان ذلك إخبارا منه عن رجل منهم ، يريد الأنصار ; لأنه منهم ، والحديث الأول رواه أبو سنان ، عن عمرو ، عن أبي رزين ، عن ، هو في أبي هريرة ، وهو رجل من ابن أم مكتوم قريش ، لا من الأنصار .
فعقلنا بذلك : أنهما حديثان في رجلين مختلفين ، مع وقوفنا على ثبت أبي سنان هذا في روايته واستقامته فيها ، وقبول الأئمة إياها منه ، ثم نظرنا في محمود بن الربيع : هل يتهيأ من مثله لقاء عتبان بن مالك ، أم لا ؟ .
5091 - فوجدنا قد حدثنا ، قال : حدثنا أبا أمية ، قال : حدثنا الحسين بن محمد المروزي ، عن جرير بن حازم ، قال : حدثني علي بن زيد بن جدعان أبو بكر بن أنس بن مالك ، قال : من أبي الشام وافدا وأنا معه ، فلقينا ، فحدث أبي ، عن محمود بن الربيع عتبان بن مالك ، فقال أبي : احفظ هذا الحديث ، فإنه من كنوز الحديث . فلما قفلنا انصرفنا إلى المدينة ، فسألت عنه ، فإذا هو حي ، وإذا شيخ أعمى كأنه يعني عتبان بن مالك ، فسألته عن الحديث ، فقال : نعم ، ذهب بصري على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ، ذهب بصري ، ولا أستطيع الصلاة خلفك ، فلو بوأت لي في داري مسجدا صليت فيه فأتخذه مصلى . قال : " نعم ، فإني غاد إليك غدا " . فلما صلى من الغد التفت إليه ، وقام حتى أتى ، فقال : يا عتبان أين تحب أن أبوئ لك ؟ " قال : فوصفت له مكانا ، فبوأ له [ ص: 90 ] وصلى فيه قدم . فإن ثقل هذا الحديث على بعض الناس لمكان علي بن زيد .
5092 - فإنه قد حدثناه ، قال : حدثنا حسين بن نصر ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن سليمان التيمي ، عن ثابت ، قال : حدثنا أنس ، عن محمود بن الربيع عتبان بن مالك ، قال أنس : فلقيت عتبان ، فحدثني به ، فأعجبني ، فقلت لابني : اكتبه فكتبه . [ ص: 91 ] فكان في هذا عود هذا الحديث إلى موافقة سليمان التيمي علي بن زيد عليه ، وكانت رواية محمود إياه عن عتبان غير مستنكرة ، وكان في ذلك وجوب العذر لابن عيينة فيما رواه عن ، عن الزهري محمود عليه ، ولما قام بهذه الآثار ، أو بما قام منها ، ما قد ذكرنا من وجوب حضور الجماعات على الضرير في بصره كما يجب على الصحيح في بصره ، وكان هذا الباب مما قد اختلف فيه أهل العلم فقالت طائفة منهم بوجوب حضور الجماعات على الضرير كوجوبها على الصحيح ، وجعلوه كمن لا يعرف الطريق ، فلم يعذر بجهله إياه عن التخلف عن حضور الجماعة لذلك ، وقد عذره آخرون في ترك حضور الجماعة ، وقد روي القولان جميعا عن ، غير أن الصحيح عندنا عنه هو وجوب حضورها عليه ، وإلى ذلك كان يذهب أبي حنيفة محمد بن الحسن ، ولا يحكي فيه خلافا بينه وبين أحد من أصحابه ، وقد خاطب [ ص: 92 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تلا على الناس : ابن أم مكتوم لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله قبل إنزال الله - عز وجل - عليه في الآية : غير أولي الضرر بأن قال له : لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، فلم ينكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل له : إنك أعمى ولا فرض في ذلك على الأعمى .
وفيما ذكرنا من ذلك دليل على أن ما يستطيعه الأعمى من العمى ، يكون فيه كالصحيح الذي لا عمى به ، وإذا كان الأعمى في حضور الجماعات كما ذكرنا كان في وجوب الحج عليه إذا وجد إليه سبيلا ، ووجد ما يبلغه به من نفقة ومن موصل له إليه كغير الأعمى والله نسأله التوفيق .