ثم دخلت سنة إحدى وتسعين
ذكر قتيبة مع نيزك تتمة خبر
قد ذكرنا مسير قتيبة إلى نيزك وما جرى له بالطالقان وقتل من قتل بها ، فلما فتح الطالقان استعمل أخاه عمر بن مسلم ، وقيل : إن ملكها لم يحارب قتيبة ، فكف عنه ، وكان بها لصوص ، فقتلهم قتيبة وصلبهم ، ثم سار قتيبة إلى الفارياب ، فخرج إليه ملكها مقرا مذعنا ، فقبل منه ولم يقتل أحدا ، واستعمل عليها رجلا من أهله .
وبلغ ملك الجوزجان خبرهم ، فهرب إلى الجبال ، وسار قتيبة إلى الجوزجان ، فلقيه أهلها سامعين مطيعين ، فقبل منهم ولم يقتل بها أحدا ، واستعمل عليها عامر بن مالك الحماني .
ثم أتى بلخ ، فلقيه أهلها ، فلم يقم بها إلا يوما واحدا ، وسار يتبع أخاه عبد الرحمن إلى شعب خلم ، ومضى نيزك إلى بغلان ، وخلف مقاتلة على فم الشعب ومضايقه ليمنعوه ، ووضع مقاتلته في قلعة حصينة من وراء الشعب . فأقام قتيبة أياما يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقا يسلكه إلى نيزك إلا الشعب أو مفازة لا تحتملها العساكر ، فبقي متحيرا ، فقدم إنسان ، فاستأمنه على أن يدله على مدخل القلعة التي من وراء الشعب ، فآمنه قتيبة ، وبعث معه رجالا ، فانتهى بهم إلى القلعة من وراء شعب خلم ، فطرقوهم وهم آمنون ، فقتلوهم ، وهرب من بقي منهم ومن كان في الشعب ، فدخل قتيبة الشعب فأتى القلعة ، ومضى إلى سمنجان فأقام بها أياما ، ثم سار إلى نيزك ، وقدم أخاه عبد الرحمن .
فارتحل نيزك من منزله فقطع وادي فرغانة ، ووجه ثقله وأمواله إلى كابل شاه ، [ ص: 30 ] ومضى حتى نزل الكرز ( وعبد الرحمن يتبعه ، فنزل عبد الرحمن حذاء الكرز ) ، ونزل قتيبة بمنزل بينه وبين عبد الرحمن فرسخان ، فتحصن نيزك في الكرز وليس إليه مسلك إلا من وجه واحد ، وهو صعب لا تطيقه الدواب ، فحصره قتيبة شهرين حتى قل ما في يد نيزك من الطعام وأصابهم الجدري ، وجدر جبغويه .
وخاف قتيبة الشتاء ، فدعا سليما الناصح ، فقال : انطلق إلى نيزك واحتل لتأتيني به بغير أمان ، فإن احتال وأبى فآمنه ، واعلم أني إن عاينتك وليس هو معك صلبتك . قال : فاكتب إلى عبد الرحمن لا يخالفني ، فكتب إليه ، فقدم عليه ، فقال له : ابعث رجالا ليكونوا على فم الشعب ، فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا فيحولوا بيننا وبين الشعب ، فبعث عبد الرحمن خيلا ، فكانت هناك ، وحمل سليم معه أطعمة وأخبصة أوقارا ، وأتى نيزك ، فقال له : إنك أسأت إلى قتيبة وغدرت . قال نيزك : فما الرأي ؟ قال : أرى أن تأتيه فإنه ليس ببارح ، وقد عزم على أن يشتو مكانه هلك أو سلم . قال نيزك : فكيف آتيه على غير أمان ؟ قال : ما أظنه يؤمنك; لما في نفسه عليك; لأنك قد ملأته غيظا ، ولكني أرى أن لا يعلم [ بك ] حتى تضع يدك في يده ، فإني أرجو أن يستحي ويعفو [ عنك ] ، قال : إني أرى نفسي تأبى هذا وهو إن رآني قتلني ، فقال سليم : ما أتيتك إلا لأشير عليك بهذا ، ولو فعلت لرجوت أن تسلم وتعود حالك عنده ، فإذا أبيت فإني منصرف .
وقدم سليم الطعام الذي معه ، ولا عهد لهم بمثله ، فانتهبه أصحاب نيزك ، فساءه ذلك ، فقال له سليم : إني لك من الناصحين ، أرى أصحابك قد جهدوا ، وإن طال بهم الحصار لم آمنهم أن يستأمنوا بك ، فأت قتيبة ، فقال : لا آمنه على نفسي ولا آتيه إلا بأمان ، وإن ظني أن يقتلني وإن آمنني ، ولكن الأمان أعذر إلي . فقال سليم : قد آمنك ، أفتتهمني ؟ قال : لا . وقال له أصحابه : اقبل قول سليم فلا يقول إلا حقا .
فخرج معه ومع جبغويه وصول طرخان ، خليفة جبغويه ، وحبس طرخان صاحب شرطته وشقران ابن أخي نيزك ، فلما خرجوا من الشعب عطفت الخيل التي خلفها سليم ، فحالوا بين الأتراك أصحاب نيزك والخروج ، فقال نيزك : هذا أول الغدر . قال سليم : تخلف هؤلاء عنك خير لك . وأقبل سليم ونيزك ومن معه حتى دخلوا إلى قتيبة ، فحبسهم وكتب إلى الحجاج يستأذنه في قتل نيزك ، ووجه قتيبة [ معاوية بن عامر بن علقمة [ ص: 31 ] العليمي ، فاستخرج ] ما كان في الكرز من متاع ومن كان فيه فقدم به على قتيبة . فانتظر بهم كتاب الحجاج ، فأتاه كتاب الحجاج بعد أربعين يوما يأمره بقتل نيزك ، فدعا قتيبة الناس واستشارهم في قتله ، واختلفوا ، فقال ضرار بن حصين : إني سمعتك تقول : أعطيت الله عهدا إن أمكنك منه أن تقتله ، فإن لم تفعل فلا ينصرك الله عليه أبدا .
فدعا نيزك فضرب رقبته بيده ، وأمر بقتل صول ، وابن أخي نيزك ، وقتل من أصحابه سبعمائة ، وقيل : اثني عشر ألفا ، وصلب نيزك وابن أخيه ، وبعث برأسه إلى الحجاج ، وقال نهار بن توسعة في قتل نيزك :
لعمري لنعمت غزوة الجند غزوة قضت نحبها من نيزك وتعلت
وأخذ الزبير مولى عباس الباهلي حقا لنيزك فيه جوهر ، وكان أكثر من في بلاده مالا وعقارا من ذلك الجوهر ، وأطلق قتيبة جبغويه ومن عليه وبعث به إلى الوليد ، فلم يزل بالشام حتى مات الوليد .
كان الناس يقولون : غدر قتيبة بنيزك ، فقال بعضهم :
فلا تحسبن الغدر حزما فربما ترقت به الأقدام يوما فزلت
فلما قتل قتيبة نيزك رجع إلى مرو ، وأرسل ملك الجوزجان يطلب الأمان ، فآمنه على أن يأتيه ، فطلب رهنا ويعطي رهائن ، فأعطاه قتيبة حبيب بن عبد الله بن حبيب الباهلي ، وأعطى ملك الجوزجان رهائن من أهل بيته ، وقدم على قتيبة [ فصالحه ] ، ثم رجع فمات بالطالقان ، فقال أهل الجوزجان : إنهم سموه ، فقتلوا حبيبا ، وقتل قتيبة الرهائن الذين كانوا عنده .