[ ص: 33 ] 323
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة
ذكر مرداويج قتل
في هذه السنة قتل ( الديلمي صاحب مرداويج بلاد الجبل وغيرها ) .
وكان سبب قتله أنه كان كثير الإساءة للأتراك ، وكان يقول : إن روح سليمان بن داود - عليه السلام - حلت فيه ، وإن الأتراك هم الشياطين والمردة ، فإن قهرهم وإلا أفسدوا ، فثقلت وطأته عليهم وتمنوا هلاكه .
فلما كان ليلة الميلاد من هذه السنة ، وهي ليلة الوقود ، أمر بأن يجمع الحطب من الجبال والنواحي ، وأن يجعل على جانبي الوادي المعروف بزندروذ كالمنابر والقباب العظيمة ، ويعمل مثل ذلك على الجبل المعروف بكريم كوه المشرف على أصبهان ، من أسفله إلى أعلاه ، بحيث إذا اشتعلت تلك الأحطاب ، يصير الجبل كله نارا ، وعمل مثل ذلك بجميع الجبال والتلال التي هناك ، وأمر فجمع له النفط ومن يلعب به ، وعمل من الشموع ما لا يحصى ، وصيد له من الغربان والحدأ زيادة على ألفي طائر ليجعل في أرجلها النفط وترسل لتطير بالنار في الهواء ، وأمر بعمل سماط عظيم كان من جملة ما فيه : مائة فرس ، ومائتان من البقر مشوية صحاحا ، سوى ما شوي من الغنم ، فإنها كانت ثلاثة آلاف رأس ، سوى المطبوخ ، وكان فيه من الدجاج وغيره من أنواع الطير زيادة على عشرة آلاف عدد ، وعمل من ألوان الحلواء ما لا يحد ، وعزم على أن يجمع الناس على ذلك السماط ، فإذا فرغوا قام إلى مجلس الشراب ويشعل النيران فيتفرج .
[ ص: 34 ] فلما كان آخر النهار ، ركب وحده وغلمانه رجالة ، وطاف بالسماط ونظر إليه وإلى تلك الأحطاب ، فاستحقر الجميع لسعة الصحراء ، فتضجر وغضب ، ولعن من صنعه ودبره ، فخافه من حضر ، فعاد ونزل ودخل خركاة له فنام ، فلم يجسر أحد [ أن ] يكلمه .
واجتمع الأمراء والقواد وغيرهم ، وأرجفوا عليه ، فمن قائل إنه غضب لكثرته ; لأنه كان بخيلا ، ومن قائل إنه قد اعتراه جنون ، وقيل بل أوجعه فؤاده ، وقيل غير ذلك ، وكادت الفتنة تثور .
وعرف العميد وزيره صورة الحال ، فأتاه ولم يزل حتى استيقظ وعرفه ما الناس فيه ، فخرج وجلس على الطعام ، وأكل ثلاث لقم ، ثم قام ونهب الناس الباقي ، ولم يجلس للشراب ، وعاد إلى مكانه ، وبقي في معسكره بظاهر أصبهان ثلاثة أيام لا يظهر .
فلما كان اليوم الرابع ، تقدم بإسراج الدواب ليعود من منزلته ( إلى داره بأصبهان ) ، فاجتمع ببابه خلق كثير ، وبقيت الدواب مع الغلمان ، وكثر صهيلها ولعبها ، والغلمان يصيحون بها لتسكن من الشغب ، وكانت مزدحمة ، فارتفع من الجميع أصوات هائلة .
وكان نائما ، فاستيقظ ، فصعد فنظر فرأى ، فسأل فعرف الحال ، فازداد غضبا ، وقال : أما كفى من خرق الحرمة ما فعلوه في ذلك الطعام ، وما أرجفوا به ، حتى انتهى أمري إلى هؤلاء الكلاب ؟ ثم سأل عن أصحاب الدواب ، فقيل : إنها للغلمان الأتراك ، وقد نزلوا إلى خدمتك ، فأمر أن تحط السروج عن الدواب وتجعل على ظهور أصحابها الأتراك ، ويأخذوا بأرسان الدواب إلى الإسطبلات ، [ ص: 35 ] ومن امتنع من ذلك ، ضربه مرداويج الديلم بالمقارع حتى يطيع ، ففعلوا ذلك بهم ، وكانت صورة قبيحة ، يأنف منها أحقر الناس .
ثم ركب هو بنفسه مع خاصته ، وهو يتوعد الأتراك ، حتى صار إلى داره قرب العشاء ، وكان قد ضرب قبل ذلك جماعة من أكابر الغلمان الأتراك ، فحقدوا عليه وأرادوا قتله ، فلم يجدوا أعوانا ، فلما جرت هذه الحادثة انتهزوا الفرصة ، وقال بعضهم : ما وجه صبرنا على هذا الشيطان ؟ فاتفقوا وتحالفوا على الفتك به ، فدخل الحمام ، وكان كورتكين يحرسه في خلواته وحمامه ، فأمره ذلك اليوم أن لا يتبعه ، فتأخر عنه مغضبا ، وكان هو الذي يجمع الحرس ، فلشدة غضبه لم يأمر أحدا أن يحضر حراسته ، وإذا أراد الله أمرا هيأ أسبابه .
وكان له أيضا خادم أسود يتولى خدمته بالحمام ، فاستمالوه فمال إليهم ، فقالوا للخادم : ألا يحمل معه سلاحا ؟ ، وكانت العادة أن يحمل معه خنجرا طوله نحو ذراع ملفوفا في منديل ، فلما قالوا ذلك للخادم قال : ما أجسر ؛ فاتفقوا على أن كسروا حديد الخنجر ، وتركوا النصاب في الغلاف بغير حديد ، فلفوه في المنديل كما جرت العادة لئلا ينكر الحال .
فلما دخل الحمام ، فعل الخادم ما قيل له ، وجاء خادم آخر وهو أستاذ داره ، ( فجلس على باب الحمام ، فهجم الأتراك إلى الحمام ، فقام أستاذ داره ) ليمنعهم ، وصاح بهم ، فضربه بعضهم بالسيف فقطع يده ، فصاح بالأسود وسقط ، وسمع مرداويج الضجة ، فبادر إلى الخنجر ليدفع به عن نفسه ، فوجده مكسورا ، فأخذ سريرا من خشب كان يجلس عليه إذا اغتسل ، فترس به باب الحمام من داخل ، ودفع الأتراك الباب ، فلم يقدروا على فتحه ، فصعد بعضهم إلى السطح ، وكسروا الجامات ، ورموه بالنشاب ، فدخل البيت الحار ، وجعل يتلطفهم ويحلف لهم على الإحسان ، فلم يلتفتوا إليه ، وكسروا باب الحمام ودخلوا عليه فقتلوه . مرداويج
[ ص: 36 ] وكان الذين ألبوا الناس عليه وشرعوا في قتله توزون ، وهو الذي صار أمير العساكر ببغداذ وياروق ، وابن بغرا ، ومحمد بن ينال الترجمان ، ووافقهم بجكم ، وهو الذي ولي أمر العراق قبل توزون ، وسيرد ذكر ذلك ، إن شاء الله تعالى . فلما قتلوه بادروا فأعلموا أصحابهم ، فركبوا ونهبوا قصره وهربوا ، ولم يعلم بهم الديلم ; لأن أكثرهم كانوا قد دخلوا المدينة ليلحق بهم ، وتخلف الأتراك معه لهذا السبب .
فلما علم الديلم والجيل ، ركبوا في أثرهم ، فلم يلحقوا منهم إلا نفرا يسيرا وقفت دوابهم ، فقتلوهم ، وعادوا لينهبوا الخزائن ، فرأوا العميد قد ألقى النار فيها ، فلم يصلوا إليها ، فبقيت بحالها .
ومن عجب ما يحكى أن العساكر ( في ذلك اليوم لما رأوا غضب ) ، قعدوا يتذاكرون ما هم فيه معه من الجور ، وشدة عتوه ، وتمرده عليهم ، ودخل بينهم رجل شيخ لا يعرفه منهم أحد ، وهو راكب ، فقال : قد زاد أمر هذا الكافر ، واليوم تكفنونه ويأخذه الله ، ثم سار ، فلحقت الجماعة دهشة ، ونظر بعضهم في وجوه بعض ، ومر الشيخ ، فقالوا : المصلحة أننا نتبعه ونأخذه ونستعيده الحديث ، لئلا يسمع مرداويج ما جرى ، فلا نلقى منه خيرا ، فتبعوه فلم يروا أحدا . مرداويج
وكان قد تجبر قبل أن يقتل وعتا ، وعمل له كرسيا من ذهب يجلس عليه ، وعمل كراسي من فضة يجلس عليها أكابر قواده ، وكان قد عمل تاجا مرصعا على صفة تاج مرداويج ، وقد عزم على قصد كسرى العراق والاستيلاء عليه ، وبناء المدائن ودور كسرى ومساكنه ، وأن يخاطب إذا فعل ذلك بشاهنشاه ، فأتاه أمر الله وهو غافل عنه ، واستراح الناس من شره ، ونسأل الله تعالى أن يريح الناس من كل ظالم سريعا . ولما قتل ، اجتمع أصحابه مرداويج الديلم والجيل وتشاوروا ، وقالوا : إن بقينا بغير رأس هلكنا ، فاجتمعوا على طاعة أخيه وشمكير بن زيار ، وهو والد قابوس ، وكان بالري ، فحملوا تابوت وساروا نحو مرداويج الري ، فخرج من بها من أصحابه مع أخيه وشمكير ، [ ص: 37 ] فالتقوه على أربعة فراسخ مشاة حفاة ، وكان يوما مشهودا .
وأما أصحابه الذين كانوا بالأهواز وأعمالها ، فإنهم لما بلغهم الخبر كتموه ، وساروا نحو الري ، فأطاعوا وشمكير أيضا ، واجتمعوا عليه .
ولما قتل ، كان ركن الدولة مرداويج بن بويه رهينة عنده ، كما ذكرناه ، فبذل للموكلين مالا فأطلقوه ، فخرج إلى الصحراء ليفك قيوده ، فأقبلت بغال عليها تبن ، وعليها أصحابه وغلمانه ، فألقي التبن ، وكسر أصحابه قيوده وركبوا الدواب ، ونجوا إلى أخيه عماد الدولة بفارس .