ثم دخلت سنة إحدى وسبعين
ذكر العراق مقتل مصعب وملك عبد الملك
في هذه السنة قتل في جمادى الآخرة ، واستولى مصعب بن الزبير على عبد الملك بن مروان العراق .
وسبب ذلك أن لما قتل عبد الملك بن مروان ، كما تقدم ذكره ، وضع السيف فقتل من خالفه ، فصفا له عمرو بن سعيد بن العاص الشام . فلما لم يبق له مخالف فيه أجمع المسير إلى مصعب بن الزبير بالعراق ، فاستشار أصحابه في ذلك ، فأشار يحيى بن الحكم بن أبي العاص عمه بأن يقنع بالشام ويترك ابن الزبير والعراق ، وكان يقول عبد الملك : من أراد صواب الرأي فليخالف يحيى . وقال بعضهم : إن العام جدب ، وقد غزوت سنتين فلم تظفر ، فأقم عامك هذا . فقال عبد الملك : الشام بلد قليل المال ، ولا آمن نفاده ، وقد كتب كثير من أشراف العراق يدعونني إليهم . وقال أخوه محمد بن مروان : الرأي أن تطلب حقك وتسير إلى العراق ، فإني أرجو أن الله ينصرك . وقال بعضهم : الرأي أن تقيم وتبعث بعض أهلك وتمده بالجنود . فقال عبد الملك : إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي ، ولعلي أبعث من له شجاعة ولا رأي له ، وإني بصير بالحرب شجاع بالسيف إن احتجت إليه ، ومصعب شجاع من بيت شجاعة ، ولكنه لا علم له بالحرب يحب الخفض ، ومعه من يخالفه ، ومعي من ينصح لي .
فلما عزم على المسير ودع زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية ، فبكت وبكى جواريها لبكائها ، فقال : قاتل الله ! لكأنه يشاهدنا حين يقول : كثير عزة
إذا ما أراد الغزو لم يثن همه حصان عليها عقد در يزينها نهته فلما لم تر النهي عاقه
بكت وبكى مما عناها قطينها
[ ص: 378 ] وسار عبد الملك إلى العراق ، فلما بلغ مصعبا مسيره وهو بالبصرة أرسل إلى المهلب ، وهو يقاتل الخوارج ، يستشيره ، وقيل : بل أحضره عنده ، فقال لمصعب : اعلم أن أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك وكاتبهم ، فلا تبعدني عنك . فقال له مصعب : إن أهل البصرة قد أبوا ( أن يسيروا حتى أجعلك على قتال الخوارج ، وهم قد بلغوا سوق الأهواز ، وأنا أكره إذ سار عبد الملك إلي أن لا أسير إليه ، فاكفني هذا الثغر .
فعاد إليهم ، وسار مصعب إلى الكوفة ومعه ، فتوفي الأحنف بالكوفة ، وأحضر مصعب ، وكان على إبراهيم بن الأشتر الموصل والجزيرة ، فلما حضر عنده جعله على مقدمته ، وسار حتى نزل باجميرى ، وهي قريب [ من ] أوانا ، وهي من مسكن ، فعسكر هناك .
وسار عبد الملك وعلى مقدمته أخوه محمد بن مروان ، وخالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد ، فنزلوا بقرقيسيا ، وحصروا زفر بن الحارث الكلائي ، ثم صالحهم ، على ما نذكره إن شاء الله - تعالى - .
وسير زفر ابنه الهذيل مع عبد الملك ، وكان معه ، ثم لحق . فلما اصطلحا سار بمصعب بن الزبير عبد الملك ومن معه ، فنزلوا بمسكن قريبا من عسكر مصعب ، بين العسكرين ثلاثة فراسخ ، ويقال : فرسخان ، وكتب عبد الملك إلى أهل العراق من كاتبه ومن لم يكاتبه ، وبذل لجميعهم أصبهان طعمة ، وقيل : إن كل من كاتبه طلب منه إمرة أصبهان ، فقال : أي شيء هذه أصبهان حتى كلهم يطلبها !
فكل منهم أخفى كتابه ، إلا ، فإنه أحضر كتابه عند إبراهيم بن الأشتر مصعب مختوما ، فقرأه مصعب ، فإذا هو يدعوه إلى نفسه ويجعل له ولاية العراق ، فقال له مصعب : أتدري ما فيه . قال : لا . قال : يعرض عليك كذا وكذا ، وإن هذا لما يرغب فيه . فقال إبراهيم : ما كنت لأتقلد الغدر والخيانة ، ووالله ما عند عبد الملك من أحد من الناس بأيأس منه مني ، ولقد كتب إلى أصحابك كلهم مثل الذي كتب إلي ، فأطعني واضرب أعناقهم . قال : إذا لا يناصحني عشائرهم . قال : فأوقرهم حديدا وابعث بهم إلى أبيض كسرى ، واحبسهم هناك ، ووكل بهم من إن غلبت وتفرقت عشائرهم عنك ضرب [ ص: 379 ] رقابهم ، وإن ظهرت مننت على عشائرهم بإطلاقهم . فقال : إني لفي شغل عن ذلك ، فرحم الله أبا بحر ، يعني ، إن كان ليحذرني غدر أهل الأحنف بن قيس العراق ، ويقول : هم كالمومسة تريد كل يوم بعلا ، وهم يريدون كل يوم أميرا .
فلما رأى قيس بن الهيثم ما عزم أهل العراق عليه من الغدر لمصعب قال لهم : ويحكم ! لا تدخلوا أهل الشام عليكم ! فوالله لئن يطعموا بعيشكم ليضيقن عليكم منازلكم ، والله لقد رأيت سيد أهل الشام على باب الخليفة يفرح إن أرسله في حاجة ، ولقد رأيتنا في الصوائف وإن زاد أحدنا على عدة أجمال ، وإن الرجل من وجوههم ليغزو على فرسه وزاده خلفه . فلم يسمعوا منه .
فلما تدانى العسكران أرسل عبد الملك إلى مصعب رجلا من كلب وقال له : أقرئ ابن أختك السلام - وكانت أم مصعب كلبية - وقل له يدع دعاءه إلى أخيه ، وأدع دعائي إلى نفسي ، ويجعل الأمر شورى . فقال له مصعب : قل له : السيف بيننا .
فقدم عبد الملك أخاه محمدا ، وقدم مصعب ، فالتقيا ، فتناوش الفريقان ، فقتل صاحب لواء إبراهيم بن الأشتر محمد ، وجعل مصعب يمد إبراهيم ، فأزال محمدا عن موقفه ، فوجه عبد الملك عبد الله بن يزيد إلى أخيه محمد ، فاشتد القتال ، فقتل مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة ، وهو من أصحاب مصعب ، وأمد مصعب إبراهيم بعتاب بن ورقاء ، فساء ذلك إبراهيم وقال : قد قلت له : لا تمدني بعتاب وضربائه ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ! فانهزم عتاب بالناس ، وكان قد كاتب عبد الملك وبايعه ، فلما انهزم صبر فقتل ، قتله ابن الأشتر عبيد بن ميسرة مولى بني عذرة ، وحمل رأسه إلى عبد الملك .
وتقدم أهل الشام فقاتلهم مصعب ، وقال لقطن بن عبد الله الحارثي : قدم خيلك أبا عثمان . فقال : أكره أن تقتل مذحج في غير شيء . فقال لحجار بن أبخر : يا أبا أسيد ، قدم خيلك . قال : إلى هؤلاء الأنتان ! قال : ما تتأخر إليه أنتن ! فقال لمحمد بن عبد الرحمن بن سعيد مثل ذلك ، فقال : ما فعل أحد هذا فأفعله . فقال مصعب : يا [ ص: 380 ] إبراهيم ، ولا إبراهيم لي اليوم ! ثم التفت فرأى عروة بن المغيرة بن شعبة ، فاستدناه فقال له : أخبرني عن الحسين بن علي كيف صنع بامتناعه عن النزول على حكم ابن زياد وعزمه على الحرب ، فأخبره ، فقال :
إن الألى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
قال عروة : فعلمت أنه لا يبرح حتى يقتل .
ثم دنا محمد بن مروان من مصعب وناداه : أنا ابن عمك محمد بن مروان ، فاقبل أمان أمير المؤمنين . فقال : أمير المؤمنين بمكة ، يعني أخاه عبد الله بن الزبير . قال : فإن القوم خاذلوك . فأبى ما عرض عليه . فنادى محمد عيسى بن مصعب بن الزبير له ، فقال له مصعب : انظر ما يريد منك . فدنا منه ، فقال له : إني لك ولأبيك ناصح ولكما الأمان . فرجع إلى أبيه فأخبره ، فقال : إني أظن القوم يفون لك ، فإن أحببت أن تأتيهم فافعل . فقال : لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك ، ورغبت بنفسي عنك . قال : فاذهب أنت ومن معك إلى عمك بمكة ، فأخبره بما صنع أهل العراق ، ودعني فإني مقتول . فقال : لا أخبر عنك قريشا أبدا ، ولكن يا أبه الحق بالبصرة ، فإنهم على الطاعة ، أو الحق بأمير المؤمنين . فقال مصعب : لا تتحدث قريش أني فررت .
وقال لابنه عيسى : تقدم إذن أحتسبك ، فتقدم ومعه ناس فقتل وقتلوا ، وجاء رجل من أهل الشام ليحتز رأس عيسى ، فحمل عليه مصعب فقتله وشد على الناس ، فانفرجوا له ، وعاد ثم حمل ثانية فانفرجوا له ، وبذل له عبد الملك الأمان وقال : إنه يعز علي أن تقتل ، فاقبل أماني ولك حكمك في المال والعمل . فأبى وجعل يضارب . فقال عبد الملك : هذا والله كما قال القائل :
ومدجج كره الكماة نزاله لا ممعنا هربا ولا مستسلما
ودخل مصعب سرادقه ، فتحنط ورمى السرادق وخرج فقاتل ، فأتاه عبيد الله بن [ ص: 381 ] زياد بن ظبيان ، فدعاه إلى المبارزة ، فقال له : يا كلب ، اعزب ! مثلي يبارز مثلك ! وحمل عليه مصعب فضربه على البيضة ، فهشمها وجرحه ، فرجع وعصب رأسه ، وترك الناس مصعبا وخذلوه حتى بقي في سبعة أنفس ، وأثخن مصعب بالرمي وكثرت الجراحات فيه ، فعاد إلى عبيد الله بن زياد بن ظبيان ، فضربه مصعب فلم يصنع شيئا لضعفه بكثرة الجراحات ، وضربه ابن ظبيان فقتله .
وقيل : بل نظر إليه ، فحمل عليه فطعنه ، وقال : يا لثارات زائدة بن قدامة الثقفي المختار ! فصرعه ، وأخذ رأسه ، وحمله إلى عبيد الله بن زياد عبد الملك ، فألقاه بين يديه وأنشد :
نعاطي الملوك الحق ما قسطوا لنا وليس علينا قتلهم بمحرم
فلما رأى عبد الملك الرأس سجد . قال ابن ظبيان : لقد هممت أن أقتل عبد الملك وهو ساجد ، فأكون قد قتلت ملكي العرب وأرحت الناس منهما .
وقال عبد الملك : لقد هممت أن أقتل ابن ظبيان فأكون قد قتلت أفتك الناس بأشجع الناس .
وأمر عبد الملك لابن ظبيان بألف دينار ، فقال : لم أقتله على طاعتك ، وإنما قتلته على قتل أخي النابئ بن زياد . ولم يأخذ منها شيئا .
وكان قتل مصعب بدير الجاثليق عند نهر دجيل ، فأمر عبد الملك به وبابنه عيسى فدفنا ، وقال : كانت الحرمة بيننا قديمة ، ولكن الملك عقيم .
وكان سبب قتل النابئ أنه قطع الطريق هو ورجل من بني نمير ، فأحضرا عند مطرف بن سيدان الباهلي صاحب شرطة مصعب ، فقتل النابئ ، وضرب النميري وأطلقه ، فجمع عبيد الله جمعا ، وقصد مطرفا بعد أن عزله مصعب عن شرطته وولاه الأهواز ، وسار عبيد الله إلى المطرف فقتله ، فبعث مصعب مكرم بن مطرف في طلب عبيد الله ، فسار حتى بلغ عسكر مكرم ، فنسب إليه ، ولم يلق عبيد الله ، كان قد لحق بعبد الملك . وقيل في قتله غير ذلك .
[ ص: 382 ] فلما أتي عبد الملك برأس مصعب نظر إليه وقال : متى تغذو قرشية مثلك ! وكانا يتحدثان إلى حبى وهما بالمدينة ، فقيل لها : قتل مصعب . فقالت : تعس قاتله ! فقيل : قتله . فقالت : وا بأبي القاتل والمقتول ! عبد الملك بن مروان
ثم دعا جند عبد الملك بن مروان العراق إلى بيعته فبايعوه ، وسار حتى دخل الكوفة ، فأقام بالنخيلة أربعين يوما ، وخطب الناس بالكوفة ، فوعد المحسن وتوعد المسيء ، فقال : إن الجامعة التي وضعت في عنق عمرو بن سعيد عندي ، ووالله لا أضعها في عنق رجل فأنتزعها إلا صعدا ، لا أفكها عنه فكا ، فلا يبقين امرؤ إلا على نفسه ، ولا يولغن دمه ، والسلام .
ودعا الناس إلى البيعة فبايعوه ، فحضرت قضاعة ، فقال لهم : كيف سلمتم وأنتم قليل مع مضر ؟ فقال عبد الله بن يعلى النهدي : نحن أعز منهم ، وأمنع بك وبمن معك منا . ثم جاءت مذحج فقال : ما أرى لأحد مع هؤلاء بالكوفة شيئا . ثم جاءت جعفى فقال : إيتوني بابن أختكم ، يعني ، وكانت أمه مذحجية ، فقالوا : هو آمن ؟ فقال : وتشترطون أيضا ؟ ! فقال رجل منهم : إنا ما نشترط جهلا بحقك ، ولكنا نتسحب عليك تسحب الولد على الوالد . فقال : نعم أنتم الحي ! إن كنتم لفرسانا في الجاهلية والإسلام ، ليحضر فهو آمن . فأتوه به فبايعه . ثم أتته يحيى بن سعيد عدوان ، فقدموا بين أيديهم رجلا جميلا وسيما ، فقال عبد الملك :
عذير الحي من عدوا ن كانوا حية الأرض
بغى بعضهم بعضا فلم يرعوا على بعض
ومنهم كانت السادات والموفون بالقرض
ثم أقبل على ذلك الرجل الجميل فقال : إيه ! فقال : لا أدري . فقال ، وكان خلفه : [ ص: 383 ] معبد بن خالد الجدلي
ومنهم حكم يقضي فلا ينقض ما يقضي
ومنهم من يجيز الحج بالسنة والفرض
وهم مذ ولدوا شبوا بسر النسب المحض
فأقبل عبد الملك على ذلك الجميل فقال : من هو ؟ فقال : لا أدري . فقال معبد من ورائه : هو ذو الإصبع . فأقبل على الجميل فقال : لم تسمى ذا الإصبع ؟ فقال : لا أدري . فقال معبد : لأن حية نهشت إصبعه فقطعتها . فأقبل على الجميل فقال : ما كان اسمه ؟ قال : لا أدري . فقال معبد : حرثان بن الحارث . فقال للجميل : من أيكم هو ؟ قال : لا أدري . فقال معبد : من بني ناج . ثم قال للجميل : كم عطاؤك ؟ قال : سبعمائة . قال لمعبد : كم عطاؤك ؟ قال : ثلاثمائة . فقال لكاتبه : اجعل معبدا في سبعمائة ، وانقص من عطاء هذا أربعمائة . ففعل .
ثم جاءت كندة فنظر إلى عبد الله بن إسحاق بن الأشعث فأوصى به أخاه . وأقبل بشر بن مروان داود بن قحذم في جمع كثير من بكر بن وائل ، عليهم الأقبية الداودية ، وبه سميت ، فجلس مع عبد الملك على سريره ، ( فأقبل عليه عبد الملك ) ، ثم نهض ونهضوا معه ، فقال عبد الملك : هؤلاء الفساق ، لولا أن صاحبهم جاءني ما أعطاني أحد منهم طاعة .
ثم ولى قطن بن عبد الله الحارثي الكوفة ، ثم عزله فاستعمل أخاه ، ثم استعمل بشر بن مروان محمد بن عمير الهمداني على همذان ، ويزيد بن رويم على الري ، ولم يف لأحد شرط له أصبهان ، وقال : علي بهؤلاء الفساق الذين أنغلوا الشام ، وأفسدوا العراق . فقيل : قد أجارهم رؤساء عشائرهم . فقال : وهل يجير علي أحد ؟
وكان عبد الله بن يزيد بن أسد والد قد لجأ إلى خالد القسري ، ولجأ إليه أيضا علي بن عبد الله بن عباس يحيى بن معيوف الهمداني ، ولجأ الهذيل بن زفر بن الحارث ، [ ص: 384 ] وكان مع عبد الملك ، على ما نذكره ، وعمرو بن يزيد الحكمي - إلى خالد بن يزيد ، فآمنهم عبد الملك فظهروا . فصنع عمرو بن حريث لعبد الملك طعاما كثيرا ، وأمر به إلى الخورنق ، وأذن إذنا عاما ، فدخل الناس وأخذوا مجالسهم ، فدخل ، فأجلسه معه على سريره ، ثم جاءت الموائد فأكلوا ، فقال عمرو بن حريث عبد الملك : ما ألذ عيشنا لو دام ، ولكنا كما قال الأول :
وكل جديد يا أميم إلى بلى وكل امرئ يصير يوما إلى كان
فلما فرغوا من الطعام طاف عبد الملك في القصر معه وهو يسأله : لمن هذا البيت ؟ ومن بنى هذا البيت ؟ وعمرو بن حريث وعمرو يخبره ، فقال عبد الملك :
اعمل على مهل فإنك ميت واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى وكأن ما هو كائن قد كان
ولما بلغ عبد الله بن خازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال : أمعه ؟ قيل : لا ، استعمله على عمر بن عبيد الله بن معمر فارس . قال : أمعه المهلب ؟ قيل : لا ، استعمله على الخوارج . قال : أمعه عباد بن الحصين ؟ قيل : استخلفه على البصرة . قال : وأنا بخراسان .
خذيني فجريني جعار وأبشري بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
ولما قتل مصعب بعث عبد الملك رأسه إلى الكوفة ، أو حمله معه إليها ، ثم بعث به إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر ، فلما رآه وقد قطع السيف أنفه قال : رحمك الله ! أما والله لقد كنت من أحسنهم خلقا ، وأشدهم بأسا ، وأسخاهم نفسا . ثم سيره إلى الشام فنصب بدمشق ، وأرادوا أن يطوفوا به في نواحي الشام ، فأخذته عاتكة بنت يزيد بن [ ص: 385 ] معاوية زوجة ، وهي عبد الملك بن مروان أم يزيد بن عبد الملك ، فغسلته ودفنته وقالت : أما رضيتم بما صنعتم حتى تطوفوا به في المدن ؟ هذا بغي .
وكان عمر مصعب حين قتل ستا وثلاثين سنة .
قال يوما عبد الملك لجلسائه : من أشد الناس ؟ قالوا : أمير المؤمنين . قال : اسلكوا غير هذا الطريق . قالوا : عمير بن الحباب . قال : قبح الله عميرا ! لص ، ثوب ينازع عليه أعز عنده من نفسه ودينه . قالوا : فشبيب . قال : إن للحرورية لطريقا . قالوا : فمن ؟ قال : مصعب ، كان عنده عقيلتا قريش سكينة بنت الحسين ، ثم هو أكثر الناس مالا ، جعلت له الأمان وولاية وعائشة بنت طلحة العراق ، وعلم أني سأفي له للمودة التي كانت بيننا ، فحمى أنفا وأبى وقاتل حتى قتل . فقال رجل : كان مصعب يشرب النبيذ . قال : كان ذلك قبل أن يطلب المروءة ، فأما مذ طلبها فلو علم أن الماء ينقص مروءته ما ذاقه . قال الأقيشر الأسدي :
حمى أنفه أن يقبل الضيم مصعب فمات كريما لم تذم خلائقه
ولو شاء أعطى الضيم من رام هضمه فعاش ملوما في الرجال طرائقه
ولكن مضى والبرق يبرق خاله يشاوره مرا ومرا يعانقه
فولى كريما لم تنله مذمة ولم يك رغدا تطبيه نمارقه
وقال عرفجة بن شريك :
ما لابن مروان أعمى الله ناظره ولا أصاب رغيبات ولا نفلا
يرجو الفلاح ابن مروان وقد قتلت خيل ابن مروان حرا ماجدا بطلا
يا ابن الحواري كم من نعمة لكم لو رام غيركم أمثالها شغلا
حملتم فحملتم كل معضلة إن الكريم إذا حملته حملا
[ ص: 386 ] وقال في عبد الله بن الزبير الأسدي - هذا الزبير : بفتح الزاي وكسر الباء - : إبراهيم بن الأشتر
سأبكي وإن لم تبك فتيان مذحج فتاها إذا الليل التمام تأوبا فتى لم يكن في مرة الحرب جاهلا ولا بمطيع في الوغى من تهيبا
أبان أنوف الحي قحطان قتله وأنف نزار قد أبان فأوعبا فمن يك أمسى خائنا لأميره فما خان إبراهيم في الموت مصعبا
وحين قتل مصعب كان المهلب يحارب الأزارقة بسولاف ، ( بلد بفارس على شاطئ البحر ) ، ثمانية أشهر ، فبلغ قتله الأزارقة قبل المهلب ، فصاحوا بأصحاب المهلب : ما قولكم في مصعب ؟ قالوا : أمير هدى ، وهو ولينا في الدنيا والآخرة ، ونحن أولياؤه . قالوا : فما قولكم في عبد الملك ؟ قالوا : ذاك ابن اللعين ، نحن نبرأ إلى الله منه ، وهو أحل دما منكم . قالوا : فإن عبد الملك قتل مصعبا ، وستجعلون غدا عبد الملك إمامكم . فلما كان الغد سمع المهلب وأصحابه قتل مصعب ، فبايع المهلب الناس ، فصاح بهم لعبد الملك بن مروان الخوارج : يا أعداء الله ! ما تقولون في مصعب ؟ قالوا : يا أعداء الله ، لا نخبركم . وكرهوا أن يكذبوا أنفسهم . قالوا : وما قولكم في عبد الملك ؟ قالوا : خليفتنا . ولم يجدوا بدا إذ بايعوه أن يقولوا ذلك . قالوا : يا أعداء الله ! أنتم بالأمس تبرأون منه في الدنيا والآخرة ، وهو اليوم إمامكم ، وقد قتل أميركم الذي كنتم تولونه ! فأيهما المهتدي وأيهما المبطل ؟ قالوا : يا أعداء الله ، رضينا بذلك إذ كان يتولى أمرنا ونرتضي بهذا . قالوا : لا والله ، ولكنكم إخوان الشياطين وعبيد الدنيا .
وأما عبد الله بن الزبير فلما انتهى إليه قتل أخيه مصعب قام في الناس فخطبهم فقال : [ ص: 387 ] الحمد لله الذي له الخلق والأمر ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء ، ألا وإنه لم يذلل الله من كان الحق معه وإن كان فردا ، ولم يعزز من كان وليه الشيطان وإن كان الناس معه طرا ، ألا وإنه قد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا ، أتانا قتل مصعب - رحمه الله - وأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله شهادة ، وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة ، يرعوي بعدها ذوو الرأي الجميل إلى الصبر وكريم العزاء ، وما مصعب إلا عبد من عبيد الله وعون من أعواني ، ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق أسلموه وباعوه بأقل الثمن ، فإن يقتل فمه ! والله ما نموت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي العاص ! والله ما قتل رجل منهم في زحف في الجاهلية ولا في الإسلام ، ولا نموت إلا قعصا بالرماح وتحت ظلال السيوف ، ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه ، ولا يبيد ملكه ، فإن تقبل لا آخذها أخذ البطر ، وإن تدبر لم أبك عليها بكاء الضرع المهين ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
حجار بن أبجر بفتح الحاء المهملة ، وتشديد الجيم ، وكنيته أبو أسيد بضم الهمزة ، وفتح السين . وحبى : بضم الحاء المهملة ، وبالباء الموحدة المشددة الممالة ، وآخره ياء مثناة من تحتها . وعبد الله بن خازم بالخاء المعجمة ، والزاي ) .