[ ص: 174 ] يوشع بن نون ، عليه السلام وفتح مدينة الجبارين
لما توفي بعث الله ذكر يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل - عليه السلام - نبيا إلى بني إسرائيل وأمره بالمسير إلى أريحا مدينة الجبارين ، واختلف العلماء في فتحها على يد من كان . فقال : إن ابن عباس موسى ، وهارون توفيا في التيه ، وتوفي فيه كل من دخله ، وقد جاوز العشرين سنة ، غير يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ، فلما انقضى أربعون سنة أوحى الله إلى يوشع بن نون فأمره بالمسير إليها وفتحها ، ففتحها ، ومثله قال قتادة ، والسدي ، وعكرمة .
وقال آخرون : إن موسى عاش حتى خرج من التيه ، وسار إلى مدينة الجبارين ، وعلى مقدمته يوشع بن نون ففتحها ، وهو قول ، قال ابن إسحاق : سار ابن إسحاق موسى بن عمران إلى أرض كنعان لقتال الجبارين ، فقدم يوشع بن نون ، وكالب بن يوفنا ، وهو صهره على أخته مريم بنت عمران ، فلما بلغوها اجتمع الجبارون إلى بلعم بن باعور ، وهو من ولد لوط ، فقالوا له : إن موسى قد جاء ليقتلنا ويخرجنا من ديارنا فادع الله عليهم . وكان بلعم يعرف اسم الله الأعظم ، فقال لهم : كيف أدعو على نبي الله والمؤمنين ، ومعهم الملائكة ؟ ! فراجعوه في ذلك وهو يمتنع عليهم ، فأتوا امرأته وأهدوا لها هدية ، فقبلتها ، وطلبوا إليها أن تحسن لزوجها أن يدعو [ ص: 175 ] على بني إسرائيل ، فقالت له في ذلك ، فامتنع ، فلم يزل به حتى قال : أستخير الله . فاستخار الله تعالى ، فنهاه في المنام ، فأخبرها بذلك ، فقالت : راجع ربك فعاود الاستخارة فلم يرد إليه جواب . فقالت : لو أراد ربك لنهاك ، ولم تزل تخدعه حتى أجابهم ، فركب حمارا له متوجها إلى جبل مشرف على بني إسرائيل ليقف عليه ويدعو عليهم ، فلما سار عليه إلا قليلا حتى ربض الحمار ، فنزل عنه وضربه حتى قام فركبه فسار به قليلا فبرك ، فعل ذلك ثلاث مرات ، فلما اشتد ضربه في الثالثة أنطقه الله فقال له : ويحك يا بلعم ، أين تذهب ؟ أما ترى الملائكة تردني ؟ فلم يرجع ، فأطلق الله الحمار حينئذ ، فسار عليه حتى أشرف على بني إسرائيل ، فكان كلما أراد أن يدعو عليهم ينصرف لسانه إلى الدعاء لهم ، وإذا أراد أن يدعو لقومه انقلب دعاؤه عليهم ، فقالوا له في ذلك ، فقال : هذا شيء غلبنا الله عليه ، واندلع لسانه فوقع على صدره ، فقال : الآن قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ، ولم يبق غير المكر والحيلة .
وأمرهم أن يزينوا نساءهم ويعطوهن السلع للبيع ويرسلوهن إلى العسكر ، ولا تمنع امرأة نفسها ممن يريدها . وقال : إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم . ففعلوا ذلك ، ودخل النساء عسكر بني إسرائيل ، فأخذ رمزى بن شلوم ، وهو رأس سبط شمعون بن يعقوب امرأة وأتى بها موسى ، فقال له : أظنك تقول هذا حرام فوالله لا نطيعك ، ثم أدخلها خيمته فوقع عليها ، فأنزل الله عليهم الطاعون ، وكان فنحاص بن العزار بن هارون صاحب أمر عمه موسى غائبا ، فلما جاء رأى الطاعون قد استقر في بني إسرائيل ، وأخبر الخبر ، وكان ذا قوة وبطش ، فقصد زمرى فرآه وهو مضاجع المرأة ، فطعنها بحربة في يده فانتظمها ، ورفع الطاعون ، وقد هلك في تلك الساعة عشرون ألفا ، وقيل : سبعون ألفا فأنزل الله في بلعم : واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين .
ثم إن موسى قدم يوشع إلى أريحا في بني إسرائيل فدخلها وقتل بها الجبارين ، وبقيت منهم بقية ، وقد قاربت الشمس الغروب ، فخشي أن يدركه الليل فيعجزوه ، فدعا الله تعالى أن يحبس عليهم الشمس ، ففعل وحبسها حتى استأصلهم ، ودخلها موسى فأقام بها ما شاء الله أن يقيم ، وقبضه الله إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلق .
[ ص: 176 ] وأما من زعم أن موسى كان قد توفي قبل ذلك فقال : إن الله أمر يوشع بالمسير إلى مدينة الجبارين ، فسار ببني إسرائيل ، ففارقه رجل يقال له بلعم بن باعور ، وكان يعرف الاسم الأعظم ، وساق من حديثه نحو ما تقدم .
فلما ظفر يوشع بالجبارين أدركه المساء ليلة السبت فدعا الله فرد الشمس عليه وزاد في النهار ساعة فهزم الجبارين ودخل مدينتهم ، وجمع غنائمهم ليأخذها القربان ، فلم تأت النار ، فقال يوشع : فيكم غلول فبايعوني ، فبايعوه ، فلصقت يده في يد من غل ، فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت فجعله في القربان وجعل الرجل معه ، فجاءت النار فأكلتهما .
وقيل : بل حصرها ستة أشهر ، فلما كان السابع تقدموا إلى المدينة وصاحوا صيحة واحدة فسقط السور ، فدخلوها وهزموا الجبارين ، وقتلوا فيهم فأكثروا . ثم اجتمع جماعة من ملوك الشام ، وقصدوا يوشع فقاتلهم ، وهزمهم ، وهرب الملوك إلى غار ، فأمر بهم يوشع بن نون ، فقتلوا ، وصلبوا . ثم ملك الشام جميعه فصار لبني إسرائيل وفرق عماله فيه . ثم توفاه الله فاستخلف على بني إسرائيل كالب بن يوفنا ، وكان عمر يوشع مائة وستا وعشرين سنة ، وكان قيامه بالأمر بعد موسى سبعا وعشرين سنة .
وأما من بقي من الجبارين فإن إفريقش بن قيس بن صيفي بن سبإ بن كعب بن زيد بن حمير بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مر بهم متوجها إلى إفريقية فاحتملهم من سواحل الشام فقدم بهم إفريقية فافتتحها ، وقتل ملكه جرجير ، وأسكنهم إياها ، فهم البرابرة . وأقام من حمير في البربر صنهاجة وكتامة ، فهم فيهم إلى اليوم .