[ ص: 698 ] 519
ثم دخلت سنة تسع عشرة وخمسمائة ذكر طغرل إلى ودبيس بن صدقة العراق وعودهما عنه وصول الملك
قد ذكرنا مسير إلى الملك دبيس بن صدقة طغرل من الشام ، فلما وصل إليه لقيه ، وأكرمه ، وأحسن إليه ، وجعله من أعيان خواصه وأمرائه ، فحسن له دبيس قصد العراق ، وهون أمره عليه ، وضمن له أنه يملكه ، فسار معه إلى العراق ، فوصلوا دقوقا في عساكر كثيرة . فكتب مجاهد الدين بهروز من تكريت يخبر الخليفة خبرهما ، فتجهز للمسير ومنعهما ، وأمر يرنقش الزكوي ، شحنة العراق ، أن يكون مستعدا للحرب ، وجمع العساكر ، والأمراء البكجية ، وغيرهم ، فبلغت عدة العساكر اثني عشر ألفا سوى الرجالة وأهل بغداذ ، وفرق السلاح .
وبرز خامس صفر وبين يديه أرباب الدولة رجالة ، وخرج من باب النصر ، وكان قد أمر بفتحه تلك الأيام ، وسماه باب النصر ، ونزل صحراء الشماسية ، ونزل يرنقش عند السبي ، ثم سار فنزل الخالص تاسع صفر .
فلما سمع طغرل بخروج الخليفة عدل إلى طريق خراسان ، وتفرق أصحابه في النهب والفساد ، ونزل هو رباط جلولاء ، فسار إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في عسكر كثير ، فنزل الدسكرة وتوجه طغرل ودبيس إلى الهارونية وسار الخليفة فنزل بالدسكرة هو والوزير ، واستقر الأمر بين دبيس وطغرل أن يسيرا حتى يعبرا ديالى وتامرا ، ويقطعا جسر النهروان ، ويقيم دبيس ليحفظ المعابر ، ويتقدم طغرل إلى بغداذ فيملكها وينهبها ، فسارا على هذه القاعدة ، فعبرا تامرا ، ونزل طغرل بينه وبين ديالى .
وسار دبيس على أن يلحقه طغرل ، فقدر الله تعالى أن الملك طغرل لحقه حمى شديدة ، ونزل عليهم من المطر ما لم يشاهدوا مثله ، وزادت المياه وجاءت السيول [ ص: 699 ] والخليفة بالدسكرة ، وسار دبيس في مائتي فارس ، وقصد معرة النهروان وهو تعبان سهران ، وقد لقي هو وأصحابه من المطر والبلل ما آذاهم ، وليس معهم ما يأكلون ، ظنا منهم أنطغرل وأصحابه يلحقونهم ، فتأخروا لما ذكرناه ، فنزلوا جياعا قد نالهم البرد ، وإذا قد طلع عليهم ثلاثون جملا تحمل الثياب المخيطة ، والعمائم ، والأقبية ، والقلانس ، وغيرها من الملبوس ، وتحمل أيضا أنواع الأطعمة المصنوعة ، قد حملت من بغداذ إلى الخليفة ، فأخذ دبيس الجميع ، فلبسوا الثياب الجدد ، ونزعوا الثياب الندية ، وأكلوا الطعام ، وناموا في الشمس مما نالهم تلك الليلة .
وبلغ الخبر أهل بغداذ ، فلبسوا السلاح ، وبقوا يحرسون الليل والنهار ، ووصل الخبر إلى الخليفة والعسكر الذين معه أن دبيسا قد ملك بغداذ ، فرحل من الدسكرة ، ووقعت الهزيمة على العسكر إلى النهروان ، وتركوا أثقالهم ملقاة بالطريق لا يلتفت إليها أحد ، ولولا أن الله تعالى لطف بهم بحمى الملك طغرل وتأخره لكان قد هلك العسكر ، والخليفة أيضا ، وأخذوا ، وكانت السواقي مملوءة بالوحل والماء من السيل ، فتمزقوا ، ولو لحقهم مائة فارس لهلكوا .
ووصلت رايات الخليفة ، ودبيس وأصحابه نيام ، وتقدم الخليفة ، وأشرف على ديالى ، ودبيس نازل غرب النهروان والجسر ممدود شرق النهروان ، فلما أبصر دبيس شمسة الخليفة قبل الأرض بين يدي الخليفة وقال : أنا العبد المطرود ، فليعف أمير المؤمنين عن عبده .
فرق الخليفة له ، وهم بصلحه ، حتى وصل الوزير ابن صدقة فثناه عن رأيه ، وركب دبيس ، ووقف بإزاء عسكر يرنقش الزكوي يحادثهم ويتماجن معهم ، ثم أمر الوزير الرجالة فعبروا ليمدوا الجسر آخر النهار ، فسار حينئذ دبيس عائدا إلى الملك طغرل ، وسير الخليفة عسكرا مع الوزير في أثره ، عاد إلى بغداذ فدخلها ، وكانت غيبته خمسة وعشرين يوما .
ثم إن الملك طغرل ودبيسا عادا وسارا إلى السلطان سنجر ، فاجتازا بهمذان ، فقسطا على أهلها مالا كثيرا ، وأخذاه وغابا في تلك الأعمال ، فبلغ خبرهم السلطان محمودا ، فجد السير إليهم ، فانهزموا من بين يديه ، وتبعتهم العساكر ، فدخلوا خراسان إلى السلطان سنجر ، وشكوا إليه من الخليفة ويرنقش الزكوي .
[ ص: 700 ] ذكر فتح البرسقي كفرطاب من الفرنج
في هذه السنة جمع البرسقي عساكره وسار إلى الشام ، وقصد كفرطاب وحصرها ، فملكها من الفرنج ، وسار إلى قلعة عزاز ، وهي من أعمال حلب من جهة الشمال ، وصاحبها جوسلين ، فحصرها ، فاجتمعت الفرنج ، فارسها وراجلها ، وقصدوه ليرحلوه عنها ، فلقيهم وضرب معهم مصافا ، واقتتلوا قتالا شديدا صبروا كلهم فيه ، فانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر كثير .
وكان عدد القتلى أكثر من ألف قتيل من المسلمين ، وعاد منهزما إلى حلب ، فخلف بها ابنه مسعودا ، وعبر الفرات إلى الموصل ليجمع العساكر ويعاود القتال ، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى .
ذكر المأمون بن البطائحي قتل
في هذه السنة ، في رمضان ، قبض الآمر بأحكام الله العلوي ، صاحب مصر ، على وزيره ، الملقب بالمأمون ، وصلبه وإخوته . أبي عبد الله بن البطائحي
وكان ابتداء أمره أن أباه كان من جواسيس الأفضل بالعراق ، فمات ولم يخلف شيئا ، فتزوجت أمه وتركته فقيرا ، فاتصل بإنسان يتعلم البناء بمصر ثم صار يحمل الأمتعة بالسوق الكبير ، فدخل مع الحمالين إلى دار الأفضل أمير الجيوش ، مرة بعد أخرى ، فرآه الأفضل خفيفا رشيقا ، حسن الحركة ، حلو الكلام ، فأعجبه ، فسأل عنه ، فقيل هو ابن فلان ، فاستخدمه مع الفراشين ، ثم تقدم عنده ، وكبرت منزلته ، وعلت حالته ، حتى صار وزيرا .
وكان كريما ، واسع الصدر ، قتالا ، سفاكا للدماء ، وكان شديد التحرز ، كثير التطلع إلى أحوال الناس من العامة والخاصة من سائر البلاد : مصر ، والشام ، والعراق ، وكثر الغمازون في أيامه .
وأما سبب قتله فإنه كان قد أرسل الأمير جعفرا أخا الآمر ليقتل الآمر ويجعله [ ص: 701 ] خليفة ، وتقررت القاعدة بينهما على ذلك ، فسمع بذلك أبو الحسن بن أبي أسامة ، وكان خصيصا بالآمر ، قريبا منه ، وقد ناله من الوزير أذى واطراح ، فحضر عند الآمر وأعلمه الحال ، فقبض عليه وصلبه ، وهذا جزاء من قابل الإحسان بالإساءة .
ذكر عدة حوادث
[ الوفيات ]
في هذه السنة توفي شمس الدولة سالم بن مالك ، صاحب قلعة جعبر ، وتعرف قديما بقلعة دوسر .
وفيها قتل القاضي أبو سعد محمد بن نصر بن منصور الهروي بهمذان ، قتله الباطنية ، وكان قد مضى إلى خراسان في رسالة الخليفة إلى السلطان سنجر ، فعاد فقتل ، وكان ذا مروءة غزيرة ، وتقدم كثير في الدولة السلجوقية .
وفي هذه السنة توفي هلال بن عبد الرحمن بن شريح بن عمر بن أحمد ، وهو من ولد ، مؤذن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وكنيته بلال بن رباح أبو سعد ، طاف البلاد ، وسمع وقرأ القرآن ، وكان موته بسمرقند .