[ ص: 373 ] 267
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين
ذكر الزنج
وفيها غلب أبو أخبار العباس بن الموفق على عامة ما كان بيد سليمان بن جامع ، والزنج من أعمال دجلة ، وأبو العباس هذا هو الذي صار خليفة بعد المعتمد ، فلقب المعتضد بالله .
وكان سبب مسيره أن الزنج لما دخلوا واسط ، وعملوا بأهلها ما ذكرنا ، بلغ ذلك الموفق ، فأمره ابنه بتعجيل المسير بين يديه إليهم ، فسار في ربيع الآخر سنة ست وستين ومائتين ، وشيعه أبوه ، وسير معه عشرة آلاف من الرجالة والخيالة في العدة الكاملة ، أخذ معه الشذوات ، والسميريات ، والمعابر للرجالة ، فسار حتى وافى دير العاقول .
وكان على مقدمته في الشذوات نصير ، المعروف بأبي حمزة ، فكتب إليه نصير يخبره أن سليمان بن جامع قد وافى بخيله ورجله في شذوات وسميريات ، والجبائي على مقدمته ، حتى نزل الجزيرة بحضرة بردرويا ، وأن سليمان بن موسى الشعراني قد وافى ( معرابان بخيله ورجله في سميريات ، فركب أبو العباس حتى وافى ) الصلح ، ووجه طلائعه ليعرف أخبارهم ، فعادوا وأعلموه بموافاة الزنج وجيشهم ، وأن أولهم بالصلح ، وآخرهم ببستان موسى بن بغا ، أسفل واسط .
وكان سبب جمع الزنج وحشدهم أنهم قالوا : إن أبا العباس فتى حدث ، غر [ ص: 374 ] بالحرب ، والرأي لنا أن نرميه بحدنا كله ، ونجبهه في أول مرة نلقاه في إزالته ، فلعل ذلك يروعه فينصرف عنا ، فجمعوا ، وحشدوا ، فلما علم أبو العباس قربهم عدل عن سنن الطريق ، اعترض في مسيره ، ولقي أصحابه أوائل الزنج ، فتطاردوا لهم ، حتى طمعوا فيهم ، واغتروا واتبعوهم ، وجعلوا يقولون : اطلبوا أميرا للحرب ، فإن أميركم قد اشتغل بالصيد .
فلما قربوا منه خرج عليهم فيمن معه من الخيل والرجل ، وصاح بنصير :
إلى أين تتأخر عن هذه الأكلب ! فرجع نصير ، وركب أبو العباس سميرية وحف به أصحابه من جميع الجهات ، فانهزمت الزنج ، وكثر القتل فيهم ، وتبعوهم إلى أن وصلوا قرية عبد الله ، وهي ستة فراسخ من الموضع الذي لقوهم به ، وأخذوا منهم خمس شذوات ، وعدة سميريات ، وأسر جماعة ، واستأمن جماعة ، فكان هذا أول الفتح ، فسار سليمان بن جامع إلى نهر الأمير ، وسار سليمان بن موسى الشعراني إلى سوق الخميس ، وانحدر أبو العباس فأقام بالعمر وهو على فرسخ من واسط ، وأصلح شذواته ، وجعل يراوح القوم القتال ويغاديهم .
ثم إن سليمان استعد وحشد ، وجعل أصحابه في ثلاثة أوجه ، وقالوا : إنه حدث ، غر يغرر بنفسه ، وكمنوا كمناء ، فبلغ الخبر أبا العباس ، فحذروا وأقبلوا وقد كمنوا الكمناء ليغتر باتباعهم فيخرج الكمين عليه ، فمنع أبو العباس أصحابه أن يتبعوهم ، فلما علموا أن كيدهم لم يتم خرج سليمان في الشذوات والسميريات ، فأمر أبو العباس نصيرا أن يبرز إليهم ، وركب هو شذاة من شذواته سماها الغزال ، ومعه جماعة من خاصته ، وأمر الخيالة بالمسير بإزائه على شاطئ النهر إلى أن ينقطع ، فعبروا دوابهم ، ونشبت الحرب بين الفريقين ، فوقعت الهزيمة على الزنج ، وغنم أبو العباس منهم أربع عشرة شذاة ، وأفلت سليمان والجبائي بعد أن أشفيا على الهلاك ، وبلغوا طهثا ، وأسلموا ما كان معهم .
ورجع أبو العباس إلى معسكره ، وأمر بإصلاح ما أخذ منهم من الشذوات والسميريات ، وأقام الزنج عشرين يوما لا يظهر منهم أحد ، وجعلوا على طريق الخيل آبارا ، وجعلوا فيها سفافيد حديد ، وجعلوا على رءوسها البواري والتراب ليسقط فيها [ ص: 375 ] المجتازون ، فاتفق أنه سقط فيها رجل من الفراغنة ، ففطنوا لها ، وتركوا ذلك الطريق .
واستمد سليمان صاحب الزنج ، فأمده بأربعين سميرية بآلاتها ومقاتلتها ، فعادوا للتعرض للحرب ، فلم يكونوا يثبتوا لأبي العباس ; ثم سير إليهم عدة سميريات ، فأخذها الزنج ، فبلغه الخبر وهو يتغدى ، فركب في سميرية ، ولم ينتظر أصحابه ، وتبعه منهم من خف ، فأدرك الزنج ، فانهزموا وألقوا أنفسهم في الماء ، فاستنقذ سميرياته ومن كان فيها ، وأخذ منهم إحدى وثلاثين سميرية ، ورمى أبو العباس يومئذ ، عن قوس حتى دميت إبهامه ، فلما رجع أمر لمن معه بالخلع ، وأمر بإصلاح السميريات المأخوذة من الزنج .
ثم إن أبا العباس رأى أن يتوغل [ في ] مازروان حتى يصير إلى الحجاجية ( ونهر الأمير ) ، ويعرف ما هناك ، فقدم نصيرا في أول السميريات وركب أبو العباس في سميرية ومعه ، ودخل محمد بن شعيب مازروان وهو يظن أن نصيرا أمامه ، فلم يقف له على خبر ، وكان قد سار على غير طريق أبي العباس ، وخرج من مع أبي العباس من الملاحين إلى غنم رأوها ليأخذوها ، فبقي هو ومحمد بن شعيب ، فأتاهما جمع من الزنج من جانبي النهر ، فقاتلهم أبو العباس بالنشاب ، ووافاه زيرك في باقي الشذوات ، فسلم أبو العباس وعاد عسكره .
ورجع نصير وجمع سليمان بن جامع أصحابه وتحصن بطهثا ، وتحصن الشعراني وأصحابه بسوق الخميس ، وجعلوا الغلات إليها ، وكذلك اجتمع بالصينية ، وأمرهم بالمسير في البر ، وإذا عرض لهم نهر عبروه ، وركب هو في الشذوات والسميريات ، فلما أبصرت الزنج الخيل خافوا ، ولجئوا إلى الماء والسفن ، فلم يلبثوا أن وافتهم الشذا مع أبي العباس ، فلم يجدوا ملجأ ، فاستسلموا ، فقتل منهم فريق ، وأسر فريق ، ألقى نفسه في الماء فريق ، أخذ أصحاب أبي العباس سفنهم وهي مملوءة أرزا ، أخذ الصينية ، وأزاح الزنج عنها ، فانحازوا إلى طهثا وسوق الخميس .
وكان قد رأى أبو العباس كركيا ، فرماه بسهم ، فسقط في عسكر الزنج ، [ ص: 376 ] ( فعرف الزنج السهم ) فزاد ذلك في خوفهم ، ورجع أبو العباس إلى عسكره ، وقد فتح الصينية .
وبلغه أن جيشا عظيما للزنج مع ثابت بن أبي دلف ولؤلؤ الزنجيين ، فسار إليهم ، وأوقع بهم وقعة عظيمة وقت السحر ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، منهم لؤلؤ ، وأسر ثابتا ، فمن عليه ، وجعله مع بعض قواده ، واستنقذ من النساء خلقا كثيرا ، فأمر بإطلاقهن وردهن إلى أهلهن ، أخذ كل ما كان الزنج جمعوه ، أمر أصحابه أن يستريحوا للمسير إلى سوق الخميس ، وأمر نصيرا بتعبئة أصحابه للمسير ، فقال له : إن نهر سوق الخميس ضيق ، فأقم أنت ونسير نحن ، فأبى عليه ، فقال له : إن كنت لا بد فاعلا فلا تكثر من الشذا ، ولا من الرحال ، فإن النهر ضيق . محمد بن شعيب
فسار إليه ، ونصير بين يديه ، إلى فم نهر مساور ، فوقف أبو العباس ، وتقدمه نصير في خمس عشرة شذاة في نهر براطق ، وهو الذي يؤدي إلى مدينة الشعراني التي سماها المنيعة في سوق الخميس ، فلما غاب عنه نصير خرج جماعة في البر على أبي العباس ، فمنعوه من الوصول إلى المدينة ، وقاتلوه قتالا شديدا من أول النهار إلى الظهر ، وخفي عليه خبر نصير ، وجعل الزنج يقولون : قد قتلنا نصيرا .
واغتم أبو العباس لذلك ، وأمر بتعرف خبره ، فسار ، فرآه عند عسكر محمد بن شعيب الزنج وأحرقه وأضرم النار في مدينتهم ، وهو يقاتلهم قتالا شديدا ، فعاد إلى أبي العباس فأخبره ، فسر بذلك .
وأسر نصير من الزنج جماعة كثيرة ، ورجع حتى وافى أبا العباس فأخبره ، ووقف أبو العباس يقاتلهم ، فرجعوا عنه ، وكمن بعض شذواته ، وأمر أن يظهر واحدة منها ، فطمعوا فيها وتبعوها حتى أدركوها فعلقوا بسكانها ، فخرجت عليهم السفن المكمنة وفيها أبو العباس ، فانهزم الزنج ، وغنم أبو العباس منهم ست سميريات ، وانهزموا لا يلوون على شيء من الخوف ، ورجع إلى عسكره سالما ، وخلع على الملاحين وأحسن إليهم .