ثم دخلت سنة سبعين ومائتين
ذكر الخبيث صاحب الزنج قتل
قد ذكرنا من حرب الزنج ، وعود الموفق عنهم مؤيدا بالظفر ، فلما عاد عن قتالهم إلى مدينة الموفقية عزم على مناجزة الخبثاء ، فأتاه كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون يستأذنه في المسير ، فأذن له وترك القتال ينتظره ليحضر القتال ، فوصل إليه ثالث المحرم من هذه السنة في جيش عظيم ، فأكرمه الموفق ، وأنزله وخلع عليه وعلى أصحابه ووصلهم ، وأحسن إليهم ، وأمر لهم بالأرزاق على قدر مراتبهم ، وأضعف ما كان لهم ، ثم تقدم إلى لؤلؤ بالتأهب لحرب الخبثاء .
وكان الخبيث لما غلب على نهر أبي الخصيب ، وقطعت القناطر والجسور التي عليه ، أحدث سكرا في النهر من جانبيه ، وجعل في وسط النهر بابا ضيقا لتحتد جرية الماء فيه ، فتمتنع الشذا من دخوله في الجزر ، ويتعذر خروجها منه في المد ، فرأى الموفق أن جريه لا يتهيأ إلا بقلع هذا السكر ، فحاول ذلك ، فاشتدت محاماة الخبثاء عليه ، وجعلوا يزيدون كل يوم فيه ، وهو متوسط دورهم ، والمروية تسهل عليهم ، وتعظم على من أراد قلعه ، فشرع في محاربتهم بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ ليتمرنوا على قتالهم ، ويقفوا على المسالك والطرق في مدينتهم ، فأمر لؤلؤا أن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر ، ففعل ، فرأى الموفق من شجاعة لؤلؤ [ ص: 421 ] وإقدامه ، وشجاعة أصحابه ما سره ، فأمر لؤلؤا بصرفهم إشفاقا عليهم ، ووصلهم الموفق وأحسن إليهم .
وألح الموفق على هذا السكر ، وكان يحارب المحامين عليه بأصحابه وأصحاب لؤلؤ وغيرهم ، والفعلة يعملون في قلعه ، ويحارب الخبيث وأصحابه في عدة وجوه ، فيحرق مساكنهم ، ويقتل مقاتليهم ، واستأمن إليه الجماعة ، وكان قد بقي للخبيث وأصحابه بقية من أرضين بناحية النهر الغربي ، لهم فيها مزارع وحصون وقنطرتان ، وبه جماعة يحفظونه ، فسار إليهم أبو العباس ، وفرق أصحابه من جهاتهم ، وجعل كمينا ، ثم أوقع بهم فانهزموا ، فكلما قصدوا جهة خرج عليهم من يقاتلهم فيها ، فقتلوا عن آخرهم لم يسلم منها إلا الشريد ، فأخذوا من أسلحتهم ما أثقلهم حمله ، وقطع القنطرتين ، ولم يزل الموفق يقاتلهم على سكرهم ، حتى تهيأ له فيه ما أحبه في خرقه .
فلما فرغ منه عزم على لقاء الخبيث ، فأمر بإصلاح السفن ، والآلات للماء والظهر ، وتقدم إلى أبي العباس ابنه أن يأتي الخبيث من ناحية دار المهلبي ، وفرق العساكر من جميع جهاته ، وأضاف المستأمنة إلى شبل ، وأمره بالجد في قتال الخبيث ، وأمر الناس أن لا يزحف أحد حتى يحرك علما أسود كان نصبه على دار الكرماني وحتى ينفخ في بوق بعيد الصوت .
وكان عبوره يوم الاثنين لثلاث بقين من المحرم ، فعجل بعض الناس ، وزحف نحوهم ، فلقيه الزنج ، فقتلوا منهم ، وردوهم إلى مواقفهم ، ولم يعلم سائر العسكر بذلك لكثرتهم ، وبعد المسافة فيما بين بعضهم وبعض ، وأمر الموفق بتحريك العلم الأسود ، والنفخ في البوق ، فزحف الناس في البر والماء يتلو بعضهم بعضا ، فلقيهم الزنج وقد حشدوا ، واجترءوا ، بما تهيأ لهم ، على من كان يسرع إليهم ، فلقيهم الجيش بنيات صادقة ، وبصائر نافذة ، واشتد القتال ، وقتل من الفريقين جمع كثير ، فانهزم أصحاب الخبيث ، وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون ، واختلط بهم ذلك اليوم أصحاب الموفق ، فقتل منهم ما لا يحصى عددا ، وغرق منهم مثل ذلك ، وحوى الموفق المدينة بأسرها ، فغنمها أصحابه ، واستنقذوا من كان بقي من الأسرى من الرجال ، والنساء ، والصبيان ، وظفروا بجميع عيال علي بن أبان المهلبي ، وبأخويه : الخليل ، ومحمد ، وأولادهما ، وعبر [ ص: 422 ] بهم إلى المدينة الموفقية .
ومضى الخبيث في أصحابه ، ومعه ابنه أنكلاي ، وسليمان بن جامع ، وقواد من الزنج وغيرهم ، هاربين ، عامدين إلى موضع كان الخبيث قد أعده ملجأ إذا غلب على مدينته ، وذلك المكان على النهر المعروف بالسفياني ، وكان أصحاب الموفق قد اشتغلوا بالنهب ، والإحراق ، وتقدم الموفق في الشذا نحو نهر السفياني ، ومعه لؤلؤ وأصحابه ، فظن أصحاب الموفق أنه رجع إلى مدينتهم الموفقية ، فانصرفوا إلى سفنهم بما قد حووا ، وانتهى الموفق ومن معه إلى عسكر الخبيث وهم منهزمون ، واتبعهم لؤلؤ في أصحابه ، حتى عبر السفياني فاقتحم لؤلؤ بفرسه ، واتبعه أصحابه ، حتى انتهى إلى النهر المعروف بالفربري فوصل إليه لؤلؤ ، وأصحابه ، فأوقعوا به وبمن معه ، فهزمهم حتى عبر نهر السفياني ، ولؤلؤ في أثرهم ، فاعتصموا بجبل وراءه ، وانفرد لؤلؤ وأصحابه باتباعهم إلى هذا المكان في آخر النهار ، فأمر الموفق بالانصراف فعاد مشكورا محمولا لفعله ، فحمله الموفق معه ، وجدد له من البر ، والكرامة ورفعة المنزلة ما كان مستحقا له ، ورجع الموفق فلم ير أحدا من أصحابه بمدينة الزنج ، فرجع إلى مدينته ، واستبشر الناس بالفتح ، وهزيمة الزنج وصاحبهم .
وكان الموفق قد غضب على أصحابه بمخالفتهم أمره ، وتركهم الوقوف حيث أمرهم ، فجمعهم جميعا ، ووبخهم على ذلك ، وأغلظ لهم ، فاعتذروا بما ظنوه من انصرافه ، وأنهم لم يعلموا بمسيره ، ولو علموا ذلك لأسرعوا نحوه ، ثم تعاقدوا ، وتحالفوا بمكانهم على أن لا ينصرف منهم أحد إذا توجهوا نحو الخبيث حتى يظفروا به ، فإن أعياهم أقاموا بمكانه حتى يحكم الله بينهم وبينه ، وسألوا الموفق أن يرد السفن التي يعبرون فيها إلى الخبيث ، لينقطع الناس عن الرجوع ، فشكرهم ، وأثنى عليهم وأمرهم بالتأهب .
وأقام الموفق بعد ذلك إلى الجمعة يصلح ما يحتاج الناس إليه ، وأمر الناس عشية الجمعة بالمسير إلى حرب الخبثاء بكرة السبت ، وطاف عليهم هو بنفسه يعرف كل قائد مركزه ، والمكان الذي يقصده ، وغدا الموفق يوم السبت لليلتين خلتا من صفر ، فعبر [ ص: 423 ] الناس ، وأمر برد السفن ، فردت وسار يقدمهم إلى المكان الذي قدر أن يلقاهم فيه .
وكان الخبيث وأصحابه قد رجعوا إلى مدينتهم بعد انصراف الجيش عنهم ، وأملوا أن تتطاول بهم الأيام وتندفع عنهم المناجزة ، فوجد الموفق المتسرعين من فرسان غلمانه والرجالة قد سبقوا الجيش ، فأوقعوا بالخبيث وأصحابه وقعة هزموهم بها ، وتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض ، وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم ، وانقطع الخبيث في جماعة من حماة أصحابه وفيهم المهلبي ، وفارقه ابنه أنكلاي ، وسليمان بن جامع ، فقصد كل فريق منهم جمعا كثيفا من الجيش .
وكان أبو العباس قد تقدم ، فلقي المنهزمين في الموضع المعروف بعسكر ريحان ، فوضع أصحابه فيهم السلاح ، ولقيهم طائفة أخرى ، فأوقعوا بهم أيضا ، وقتلوا منهم جماعة ، وأسروا سليمان بن جامع ، فأتوا به الموفق من غير عهد ولا عقد ، فاستبشر الناس بأسره ، وكثر التكبير ، وأيقنوا الفتح ، إذ كان أكثر أصحاب الخبيث غناء عنه ، وأسر من بعده إبراهيم بن جعفر الهمذاني ، وكان أحد أمراء جيوشه ، فأمر الموفق بالاستيثاق منهم وجعلهم في شذاة لأبي العباس .
ثم إن الزنج الذين انفردوا مع الخبيث حملوا على الناس حملة أزالوهم عن مواقفهم ، ففتروا ، فأحس الموفق بفتورهم ، فجد في طلب الخبيث وأمعن ، فتبعه أصحابه ، وانتهى الموفق إلى آخر نهر أبي الخصيب ، فلقيه البشير بقتل الخبيث ، وأتاه بشير آخر ومعه كف ذكر أنه كفه ، فقوي الخبر عنده ، ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض ومعه رأس الخبيث ، فأدناه منه ، وعرضه على جماعة من المستأمنة فعرفوه ، فخر لله ساجدا ، وسجد معه الناس ، وأمر الموفق برفع رأسه على قناة ، فتأمله الناس ، فعرفوه ، وكثر الضجيج بالتحميد .
وكان مع الخبيث لما أحيط به المهلبي وحده ، فولى عنه هاربا ، وقصد نهر الأمير فألقى نفسه فيه يريد النجاة ; وكان أنكلاي قد فارق أباه قبل ذلك وسار نحو الديناري .
ورجع الموفق ورأس الخبيث بين يديه ، وسليمان معه ، وأصحابه إلى مدينته ، وأتاه من الزنج عالم كبير يطلبون الأمان فأمنهم ، وانتهى إليه خبر أنكلاي ، والمهلبي ، ومكانهما ، ومن معهما من مقدمي الزنج ، فبث الموفق أصحابه في طلبهم ، وأمرهم بالتضييق عليهم ، فلما أيقنوا أن لا ملجأ أعطوا بأيديهم ، فظفر بهم وبمن معهم ، وكانوا زهاء خمسة آلاف ، [ ص: 424 ] فأمر بالاستيثاق من المهلبي ، وأنكلاي ، وكان ممن هرب قرطاس الرومي الذي رمى الموفق بالسهم في صدره ، فانتهى إلى رامهرمز ، فعرفه رجل ، فدل عليه عامل البلد ، فأخذه وسيره إلى الموفق فقتله أبو العباس .
وفيها استأمن درمويه الزنجي إلى أبي أحمد ، وكان درمويه من أنجاد الزنج وأبطالهم ، وكان الخبيث قد وجهه قبل هلاكه بمدة إلى موضع كثير الشجر ، والأدغال ، والآجام ، متصل بالبطيحة ، وكان هو ومن معه يقطعون الطريق هنالك على السابلة في زواريق خفاف ، فإذا طلبوا دخلوا الأنهار الصغار الضيقة ، واعتصموا بالأدغال ، وإذا تعذر عليهم مسلك لضيقه حملوا سفنهم ولجئوا إلى الأمكنة الوسيعة ، ويعبرون على قرى البطيحة ، ويقطعون الطريق ، فظفر بجماعة من عسكر الموفق معهم نساء قد عادوا إلى منازلهم ، فقتل الرجال ، وأخذ النساء ، فسألهن عن الخبر ، فأخبرنه بقتل الخبيث ، وأسر أصحابه ، وقواده ، ومصير كثير منهم إلى الموفق بالأمان ، وإحسانه إليهم ، فسقط في يده ، ولم ير لنفسه ملجأ إلا طلب الأمان ، والصفح عن جرمه ، فأرسل يطلب الأمان ، فأجابه الموفق إليه ، فخرج وجميع من معه ، حتى وافى عسكر الموفق ، فأحسن إليهم وأمنهم .
فلما اطمأن درمويه أظهر ما كان في يده من الأموال ، والأمتعة ، وردها إلى أربابها ردا ظاهرا ، فعلم بذلك حسن نيته ، فازداد إحسان الموفق إليه ، وأمر أن يكتب إلى أمصار المسلمين بالنداء في أهل النواحي التي دخلها الزنج بالرجوع إلى أوطانهم ، فسار الناس إلى ذلك ; وأقام الموفق بالمدينة الموفقية ليأمن الناس بمقامه ، وولى البصرة ، والأبلة ، وكور دجلة ، رجلا من قواده قد حمد مذهبه ، وعلم حسن سيرته ، يقال له العباس بن تركس ، وأمره بالمقام بالبصرة ، وولى قضاء البصرة والأبلة وكور دجلة . محمد بن حماد
وقدم ابنه أبا العباس إلى بغداذ ، ومعه رأس الخبيث ليراه الناس ، فبلغها لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة .
وكان خروج صاحب الزنج يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين ، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين ، وكانت [ ص: 425 ] أيامه أربع عشرة سنة وأربعة أشهر وستة أيام .
وقيل في أمر الموفق ، وأصحاب الزنج أشعار كثيرة ، فمن ذلك قول يحيى بن محمد الأسلمي :
أقول وقد جاء البشير بوقعة أعزت من الإسلام ما كان واهيا جزى الله خير الناس للناس بعدما
أبيح حماهم خير ما كان جازيا تفرد ، إذ لم ينصر الله ، ناصر
بتجديد دين كان أصبح باليا وتجديد ملك قد وهى بعد عزه
وأخذ بثارات تبين الأعاديا ورد عمارات أزيلت وأخربت
ليرجع فيء قد تخرم وافيا وترجع أمصار أبيحت وأحرقت
مرارا فقد أمست قواء عوافيا ويشفي صدور المسلمين بوقعة
يقر بها منها العيون البواكيا ويتلى كتاب الله في كل مسجد
ويلقى دعاء الطالبيين خاسيا فأعرض عن أحبابه ونعيمه
وعن لذة الدنيا وأصبح غازيا
وهي قصيدة طويلة .
وقال غيره في هذا المعنى أيضا شعرا كثيرا .
انقضى أمر الزنج .