أما بعد فإني لم أزل محبا لمطالعة كتب التواريخ ومعرفة ما فيها مؤثرا للاطلاع على الجلي من حوادثها وخافيها ، مائلا إلى المعارف والآداب والتجارب المودعة في مطاويها ، فلما تأملتها رأيتها متباينة في تحصيل الغرض يكاد جوهر المعرفة بها يستحيل [ ص: 6 ] إلى العرض ، فمن بين مطول قد استقصى الطرق والروايات ، ومختصر قد أخل بكثير مما هو آت ، ومع ذلك فقد ترك كلهم العظيم من الحادثات والمشهور من الكائنات ، وسود كثير منهم الأوراق بصغائر الأمور التي الإعراض عنها أولى ، وترك تسطيرها أحرى ، كقولهم خلع فلان الذمي صاحب العيار وزاد رطلا في الأسعار ، وأكرم فلان وأهين فلان ، وقد أرخ كل منهم إلى زمانه وجاء بعده من ذيل عليه وأضاف المتجددات بعد تاريخه إليه .
والشرقي منهم قد أخل بذكر أخبار الغرب ، والغربي قد أهمل أحوال الشرق ؛ فكان الطالب إذا أراد أن يطالع تاريخا متصلا إلى وقته يحتاج إلى مجلدات كثيرة وكتب متعددة مع ما فيها من الإخلال والإملال .
فلما رأيت الأمر كذلك شرعت في تأليف تاريخ جامع لأخبار ملوك الشرق والغرب وما بينهما ، ليكون تذكرة لي أراجعه خوف النسيان ، وآتي فيه بالحوادث والكائنات من أول الزمان ، متتابعة يتلو بعضها بعضا إلى وقتنا هذا .
ولا أقول إني أتيت على جميع الحوادث المتعلقة بالتاريخ ، فإن من هو بالموصل لا بد أن يشذ عنه ما هو بأقصى الشرق والغرب ولكن أقول إنني قد جمعت في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد ومن تأمله علم صحة ذلك .
فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنفه إذ هو الكتاب المعول عند الكافة عليه والمرجوع عند الاختلاف إليه ، فأخذت ما فيه من جميع [ ص: 7 ] تراجمه لم أخل بترجمة واحدة منها وقد ذكر هو في أكثر الحوادث روايات ذوات عدد كل رواية منها مثل التي قبلها أو أقل منها وربما زاد الشيء اليسير أو نقصه فقصدت أتم الروايات فنقلتها وأضفت إليها من غيرها ما ليس فيها وأودعت كل شيء مكانه فجاء جميع ما في تلك الحادثة على اختلاف طرقها سياقا واحدا على ما تراه . الإمام أبو جعفر الطبري
فلما فرغت منه وأخذت غيره من التواريخ المشهورة فطالعتها وأضفت منها إلى ما نقلته من تاريخ ما ليس فيه ووضعت كل شيء منها موضعه إلا ما يتعلق بما جرى بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإني لم أضف إلى ما نقله الطبري أبو جعفر شيئا إلا ما فيه زيادة بيان أو اسم إنسان أو ما لا يطعن على أحد منهم في نقله ، وإنما اعتمدت عليه من بين المؤرخين إذ هو الإمام المتقن حقا الجامع علما وصحة اعتقاد وصدقا .
على أني لم أنقل إلا من التواريخ المذكورة والكتب المشهورة ممن يعلم بصدقهم فيما نقلوه وصحة ما دونوه ، ولم أكن كالخابط في ظلماء الليالي ولا كمن يجمع الحصبا واللآلي .
ورأيتهم أيضا يذكرون الحادثة الواحدة في سنين ويذكرون منها في كل شهر أشياء فتأتي الحادثة مقطعة لا يحصل منها على غرض ولا تفهم إلا بعد إمعان النظر ، فجمعت أنا الحادثة في موضع واحد وذكرت كل شيء منها في أي شهر أو سنة كانت فأتت متناسقة متتابعة قد أخذ بعضها برقاب بعض .
وذكرت في كل سنة لكل حادثة كبيرة مشهورة ترجمة تخصها فأما الحوادث [ ص: 8 ] الصغار التي لا يحتمل منها كل شيء ترجمة فإنني أفردت لجميعها ترجمة واحدة في آخر كل سنة فأقول : ذكر عدة حوادث وإذا ذكرت بعض من نبغ وملك قطرا من البلاد ولم تطل أيامه فإني أذكر جميع حاله من أوله إلى آخره عند ابتداء أمره لأن إذا تفرق خبره لم يعرف للجهل به .
وذكرت في آخر كل سنة من توفي فيها من مشهوري العلماء والأعيان والفضلاء وضبطت الأسماء المشتبهة المؤتلفة في الخط المختلفة في اللفظ الواردة فيه بالحروف ضبطا يزيل الإشكال ويغني عن الإنقاط والأشكال .
فلما جمعت أكثره أعرضت عنه مدة طويلة لحوادث تجددت وقواطع توالت وتعددت ولأن معرفتي بهذا النوع كملت وتمت .
ثم إن نفرا من إخواني وذوي المعارف والفضائل من خلاني ممن أرى محادثتهم نهاية أوطاري وأعدهم من أماثل مجالسي وسماري رغبوا إلي في أن يسمعوه مني ليرووه عني فاعتذرت بالإعراض عنه وعدم الفراغ منه ، فإنني لم أعاود مطالعة مسودته ولم أصلح ما أصلح فيها من غلط وسهو ولا أسقطت منها ما يحتاج إلى إسقاط ومحو ، وطالت المراجعة مدة وهم للطلب ملازمون وعن الإعراض معرضون وشرعوا في سماعه قبل إتمامه وإصلاحه وإثبات ما تمس الحاجة إليه وحذف ما لا بد من اطراحه والعزم على إتمامه فاتر والعجز ظاهر للاشتغال بما لا بد منه لعدم المعين والمظاهر ولهموم توالت ونوائب تتابعت فأنا ملازم الإهمال والتواني ، فلا أقول : إني لأسير إليه سير الشواني .
فبينما الأمر كذلك إذ برز أمر من طاعته فرض واجب واتباع أمره حكم لازب ، من [ ص: 9 ] أعلاق الفضل بإقباله عليها نافقة وأرواح الجهل بإعراضه عنها نافقةمن أحيا المكارم وكانت أمواتا وأعادها خلقا جديدا بعد أن كانت رفاتا من عم رعيته عدله ونواله وشملهم إحسانه وإفضاله ، مولانا مالك الملك الرحيم العالم المؤيد المنصور المظفر بدر الدين ركن الإسلام والمسلمين محيي العدل في العالمين خلد الله دولته .
فحينئذ ألقيت عني جلباب المهل وأبطلت رداء الكسل وألقيت الدواة وأصلحت القلم وقلت : هذا أوان الشد فاشتدي زيم وجعلت الفراغ أهم مطلب وإذا أراد الله أمرايأ له السبب وشرعت في إتمامه مسابقا ، ومن العجب أن السكيت يروم أن يجيء سابقا ونصبت نفسي غرضا للسهام وجعلتها مظنة لأقوال اللوام لأن المآخذ إذا كانت تتطرق إلى التصنيف المهذب والاستدراكات تتعلق بالمجموع المرتب الذي تكررت مطالعته وتنقيحه وأجيد تأليفه وتصحيحه فهي بغيره أولى وبه أحرى على أني مقر بالتقصير فلا أقول إن الغلط سهو جرى به القلم ، بل أعترف بأن ما أجهل أكثر مما أعلم .
وقد سميته اسما يناسب معناه وهو : الكامل في التاريخ ولقد رأيت جماعة ممن يدعي المعرفة والدراية ويظن بنفسه التبحر في العلم والرواية يحتقر التواريخ ويزديها ويعرض عنها ويلغيها ظنا منه أن غاية فائدتها إنما هو القصص والأخبار ، ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار وهذه حال من اقتصر على القشر دون اللب نظره ، وأصبح مخشلبا جوهره ، ومن رزقه الله طبعا سليما وهداه صراطا مستقيما علم أن فوائدها كثيرة ومنافعها الدنيوية والأخروية جمة غزيرة ، وها نحن نذكر شيئا مما ظهر لنا فيها ونكل إلى قريحة الناظر فيه معرفة باقيها .
فأما فوائدها الدنيوية فمنها : أن الإنسان لا يخفى أنه يحب البقاء ويؤثر أن يكون [ ص: 10 ] في زمرة الأحياء فيا ليت شعري ! أي فرق بين ما رآه أمس أو سه وبين ما قرأه في الكتب المتضمنة أخبار الماضين وحوادث المتقدمين ؟ فإذا طالعها فكأنه عاصرهم ، وإذا علمها فكأنه حاضرهم .
ومنها : أن الملوك ومن إليهم الأمر والنهي إذا وقفوا على ما فيها من سيرة أهل الجور والعدوان ورآها مدونة في الكتب يتناقلها الناس فيرويها خلف عن سلف ، ونظروا إل ما أعقبت من سوء الذكر وقبيح الأحدوثة وخراب البلاد وهلاك العباد وذهاب الأموال وفساد الأحوال استقبحوها وأعرضوا عنها واطرحوها . وإذا رأوا سيرة الولاة العادلين وحسنها وما يتبعهم من الذكر الجميل بعد ذهابهم ، وأن بلادهم وممالكهم عمرت وأموالهم درت استحسنوا ذلك ورغبوا فيه وثابروا عليه وتركوا ما ينافيه هذا سوى ما يحصل لهم من معرفة الآراء الصائبة التي دفعوا بها مضرات الأعداء وخلصوا بها من المهالك واستصانوا نفائس المدن وعظيم الممالك ولو لم يكن فيها غير هذا لكفى به فخرا .
ومنها ما يحصل للإنسان من التجارب والمعرفة بالحوادث وما تصير إليه عواقبها ، فإنه لا يحدث أمر إلا قد تقدم هو أو نظيره فيزداد بذلك عقلا ويصبح لأن يقتدى به أهلا ، ولقد أحسن القائل حيث يقول شعرا :
رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع فلا ينفع مسموع
إذا لم يك مطبوع كما لا تنفع الشمس
وضوء العين ممنوع
ومنها ما يتجمل به الإنسان في المجالس والمحافل من ذكر شيء من معارفها ونقل طريفة من طرائفها فترى الأسماع مصغية إليه والوجوه مقبلة عليه والقلوب متأملة مايورده ويصدره مستحسنة ما يذكره .
[ ص: 11 ] وأما الفوائد الأخروية : فمنها أن العاقل اللبيب إذا تفكر فيها ورأى تقلب الدنيا بأهلها وتتابع نكباتها إلى أعيان قاطنيها ، وأنها سلبت نفوسه وذخائرهم وأعدمت أصاغرهم وأكابرهم فلم تبق على جليل ولا حقير ولم يسلم من نكدها غني ولا فقير ، زهد فيها وأعرض عنها وأقبل على التزود للآخرة منها ، ورغب في دار تنزهت عن هذه الخصائص وسلم أهلها من هذه النقائص ، ولعل قائلا يقول : ما نرى ناظرا فيها زهد في الدنيا وأقبل على الآخرة ورغب في درجاتها العليا ، فيا ليت شعري كم رأى هذا القائل قارئا للقرآن العزيز وهو سيد المواعظ وأفصح الكلام يطلب به اليسير من هذا الحطام فإن القلوب مولعة بحب العاجل .
ومنها التخلق بالصبر والتأسي وهما من محاسن الأخلاق فإن العاقل إذا رأى أن مصاب الدنيا لم يسلم منه نبي مكرم ولا ملك معظم بل ولا أحد من البشر علم أنه يصيبه ما أصابهم وينوبه ما نابهم .
شعرا :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
ولهذه الحكمة وردت القصص في القرآن المجيد ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) . فإن ظن هذا القائل أن الله سبحانه أراد بذكرها الات والأسمار فقد تمسك من أقوال الزيغ بمحكم سببها حيث قالوا : هذه أساطير الأولين اكتتبها .
نسأل الله تعالى أن يرزقنا قلبا عقولا ولسانا صادقا ويوفقنا للسداد في القول والعمل وهو حسبنا ونعم الوكيل .