ذكر السلطان محمد جكرمش بالموصل حصر
لما اصطلح السلطان بركيارق والسلطان محمد ، كما ذكرناه في السنة الخالية ، وسلم محمد مدينة أصبهان إلى بركيارق ، وسار إليها ، وأقام محمد بتبريز من أذربيجان إلى أن وصل أصحابه الذين بأصبهان ، فلما وصلوا استوزر سعد الملك أبا المحاسن لحسن أثره الذي كان في حفظ أصبهان ، وأقام إلى صفر من هذه السنة ، وسار إلى مراغة ، ثم إلى أربل يريد قصد جكرمش ، صاحب الموصل ، ليأخذ بلاده .
فلما سمع جكرمش بمسيره إليه جدد سور الموصل ، ورم ما احتاج إلى إصلاح ، وأمر أهل السواد بدخول البلد ، وأذن لأصحابه في نهب من لم يدخل .
وحصر محمد المدينة ، وأرسل إلى جكرمش يذكر له الصلح بينه وبين أخيه ، وأن في جملة ما استقر أن تكون الموصل وبلاد الجزيرة له ، وعرض عليه الكتب من بركيارق إليه بذلك ، والأيمان على تسليمها إليه ، وقال له : إن أطعت فأنا لا آخذها منك بل أقرها بيدك ، وتكون الخطبة لي بها ، فقال جكرمش : إن كتب السلطان وردت إلي ، بعد الصلح ، تأمرني أن لا أسلم البلد إلى غيره .
فلما رأى محمد امتناعه باكره القتال ، وزحف إليه بالنقابين ، والدبابات ، وقاتل أهل البلد أشد قتال ، وقتلوا خلقا كثيرا لمحبتهم لجكرمش لحسن سيرته فيهم ، فأمر جكرمش ففتح في السور أبواب لطاف يخرج منها الرجالة يقاتلون ، فكانوا يكثرون القتل في العسكر ، ثم زحف محمد مرة ، فنقب في السور أصحابه ، وأدركهم الليل ، فأصبحوا وقد عمره أهل البلد ، وشحنوه بالمقاتلة ، وكانت الأسعار عندهم رخيصة في الحصار : كانت الحنطة تساوي كل ثلاثين مكوكا بدينار ، والشعير كل خمسين مكوكا بدينار .
وكان بعض عسكر جكرمش قد اجتمعوا بتل يعفر ، فكانوا يغيرون على أطراف [ ص: 505 ] العسكر ، ويمنعون الميرة عنهم ، فدام القتال عليهم إلى عاشر جمادى الأولى ، فوصل الخبر إلى جكرمش بوفاة ، فأحضر أهل البلد ، واستشارهم فيما يفعله بعد موت السلطان ، فقالوا : أموالنا وأرواحنا بين يديك ، وأنت أعرف بشأنك ، فاستشر الجند ، فهم أعرف بذلك . السلطان بركيارق
فاستشار أمراءه ، فقالوا : لما كان السلطان حيا قد كنا على الامتناع ، ولم يتمكن أحد من طروق بلدنا ، وحيث توفي فليس للناس اليوم سلطان غير هذا ، والدخول تحت طاعته أولى .
فأرسل إلى محمد يبذل الطاعة ، ويطلب وزيره سعد الملك ليدخل إليه ، فحضر الوزير عنده ، وأخذ بيده ، وقال : المصلحة أن تحضر الساعة عند السلطان ، فإنه لا يخالفك في جميع ما تلتمسه ، وأخذ بيده وقام ، فسار معه جكرمش ، فلما رآه أهل الموصل قد توجه إلى السلطان ، جعلوا يبكون ، ويضجون ، ويحثون التراب على رءوسهم ، فلما دخل على السلطان محمد أقبل عليه ، وأكرمه ، وعانقه ، ولم يمكنه من الجلوس ، وقال : ارجع إلى رعيتك ، فإن قلوبهم إليك ، وهم متطلعون إلى عودك ، فقبل الأرض وعاد ومعه جماعة من خواص السلطان ، وسأل السلطان من الغد أن يدخل البلد ليزين له ، فامتنع من ذلك ، فعمل سماطا ، بظاهر الموصل ، عظيما ، وحمل إلى السلطان من الهدايا والتحف ولوزيره أشياء جليلة المقدار .