ذكر ( القرامطة إلى العراق ) وقتل يوسف بن أبي الساج وصول
في هذه السنة وردت الأخبار بمسير من أبي طاهر القرمطي هجر نحو الكوفة ثم وردت الأخبار من البصرة بأنه اجتاز قريبا منهم نحو الكوفة . فكتب المقتدر إلى يوسف بن أبي الساج يعرفه هذا الخبر ، ويأمره بالمبادرة إلى الكوفة ، فسار إليها عن واسط ، آخر شهر رمضان ، وقد أعد له بالكوفة الأنزال له ولعسكره ، فلما وصلها أبو طاهر الهجري هرب نواب السلطان عنها ، واستولى عليها أبو طاهر ، وعلى تلك الأنزال والعلوفات ، وكان فيها مائة كر دقيقا ، وألف كر شعيرا ، وكان قد فني ما معه من الميرة والعلوفة ، فقووا بما أخذوه .
ووصل يوسف إلى الكوفة بعد وصول القرمطي بيوم واحد ، فحال بينهم وبينها ، وكان وصوله يوم الجمعة ثامن شوال ، فلما وصل إليهم أرسل إليهم يدعوهم إلى طاعة المقتدر ، فإن أبوا فموعدهم الحرب يوم الأحد ، فقالوا : لا طاعة علينا إلا لله تعالى ، والموعد بيننا للحرب بكرة غد .
فلما كان الغد ابتدأ أوباش العسكر بالشتم ورمي الحجارة ، ورأى يوسف قلة القرامطة ، فاحتقرهم ، وقال : إن هؤلاء الكلاب بعد ساعة في يدي ! وتقدم بأن يكتب كتاب الفتح والبشارة بالظفر قبل اللقاء تهاونا بهم .
[ ص: 712 ] وزحف الناس بعضهم إلى بعض ، ( فسمع أبو طاهر ) أصوات البوقات والزعقات ، فقال لصاحب له : ما هذا ؟ فقال : فشل ! قال : أجل ، لم يزد على هذا ، فاقتتلوا من ضحوة النهار ، يوم السبت ، إلى غروب الشمس ، وصبر الفريقان ، فلما رأى أبو طاهر ذلك باشر الحرب بنفسه ، ومعه جماعة يثق بهم ، وحمل بهم ، فطحن أصحاب يوسف ، ودقهم ، فانهزموا بين يديه ، وأسر يوسف وعددا كثيرا من أصحابه ، وكان أسره وقت المغرب ، وحملوه إلى عسكرهم ، ووكل به أبو طاهر طبيبا يعالج جراحه .
وورد الخبر إلى بغداذ بذلك ، فخاف الخاص والعام من القرامطة خوفا شديدا ، وعزموا على الهرب إلى حلوان وهمذان ، ودخل المنهزمون بغداذ ، أكثرهم رجالة ، حفاة ، عراة ، فبرز ليسير إلى مؤنس المظفر الكوفة ، فأتاهم الخبر بأن القرامطة قد ساروا إلى عين التمر ، فأنفذ من بغداذ خمسمائة سميرية فيها المقاتلة لتمنعهم من عبور الفرات ، ( وسير جماعة من الجيش إلى الأنبار لحفظها ، ومنع القرامطة من العبور هنالك .
ثم إن القرامطة قصدوا الأنبار ، فقطع أهلها الجسر ، ونزل القرامطة غرب الفرات ، وأنفذ أبو طاهر أصحابه إلى الحديثة ، فأتوه بسفن ، ولم يعلم أهل الأنبار بذلك ، وعبر فيها ثلاثمائة رجل من القرامطة ، فقاتلوا عسكر الخليفة ، فهزموهم ، وقتلوا منهم جماعة ، واستولى القرامطة على مدينة الأنبار ، وعقدوا الجسر ، وعبر أبو طاهر جريدة وخلف سواده بالجانب الغربي .
ولما ورد الخبر بعبور أبي طاهر إلى الأنبار ، خرج نصر الحاجب في عسكر جرار ، فلحق ، فاجتمعا في نيف وأربعين ألف مقاتل ، سوى الغلمان ومن يريد النهب ، وكان ممن معه بمؤنس المظفر أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان ، ومن إخوته أبو الوليد ، وأبو السرايا في أصحابهم ، وساروا حتى بلغوا نهر زبارا ، على فرسخين من بغداذ ، عند عقرقوف ، فأشار أبو الهيجاء بن حمدان بقطع القنطرة التي عليه ، فقطعوها ، وسار أبو طاهر ومن معه نحوهم ، فبلغوا نهر زبارا ، وفي أوائلهم رجل أسود ، فما زال الأسود [ ص: 713 ] يدنو من القنطرة ، والنشاب يأخذه ، ولا يمتنع ، حتى أشرف عليها ، فرآها مقطوعة ، فعاد وهو مثل القنفذ .
وأراد القرامطة العبور فلم يمكنهم لأن النهر لم يكن فيه مخاضة ، ولما أشرفوا على عسكر الخليفة هرب منهم خلق كثير إلى بغداذ من غير أن يلقوهم ، فلما رأى ابن حمدان ذلك قال لمؤنس : كيف رأيت ما أشرت به عليكم ؟ فوالله لو عبر القرامطة النهر لانهزم كل من معك ولأخذوا بغداذ ، ولما رأى القرامطة ذلك ، ( عادوا إلى الأنبار ) ، وسير صاحبه مؤنس المظفر بليقا في ستة آلاف مقاتل ، إلى عسكر القرامطة ، غربي الفرات ، ليغنموه ويخلصوا ابن أبي الساج ، فبلغوا إليهم ، وقد عبر أبو طاهر الفرات في زورق صياد ، وأعطاه ألف دينار ، فلما رآه أصحابه قويت قلوبهم ، ولما أتاهم عسكر مؤنس كان أبو طاهر عندهم ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم عسكر الخليفة .
ونظر أبو طاهر إلى ابن أبي الساج وهو قد خرج من الخيمة ينظر ويرجو الخلاص ، وقد ناداه أصحابه : أبشر بالفرج ! فلما انهزموا أحضره وقتله ، وقتل جميع الأسرى من أصحابه . وسلمت بغداذ من نهب العيارين ، لأن نازوك كان يطوف هو وأصحابه ليلا ونهارا ، ومن وجدوه بعد العتمة قتلوه فامتنع العيارون ، واكترى كثير من أهل بغداذ سفنا ، ونقلوا إليها أموالهم ، وربطوها لينحدروا إلى واسط ، وفيهم من نقل متاعه إلى واسط وإلى حلوان ليسيروا إلى خراسان . وكان عدة القرامطة ألف رجل وخمسمائة رجل منهم سبعمائة فارس وثمانمائة راجل ، وقيل كانوا ألفين وسبعمائة .
وقصد القرامطة مدينة هيت ، وكان المقتدر قد سير إليها سعيد بن حمدان ، وهارون بن غريب ، فلما بلغها القرامطة رأوا عسكر الخليفة قد سبقهم فقاتلوهم على السور ، فقتلوا من القرامطة جماعة كثيرة ، فعادوا عنها .
[ ص: 714 ] ولما بلغ أهل بغداذ عودهم من هيت سكنت قلوبهم ، ولما علم المقتدر بعدة عسكره وعسكر القرامطة قال : لعن الله نيفا وثمانين ألفا يعجزون عن ألفين وسبعمائة .
وجاء إنسان إلى علي بن عيسى ، وأخبره أن في جيرانه رجلا من شيراز على مذهب القرامطة يكاتب أبا طاهر بالأخبار ، فأحضره ، وسأله واعترف ، وقال : ما صحبت أبا طاهر إلا لما صح عندي أنه على الحق وأنت وصاحبك كفار تأخذون ما ليس لكم ، ولا بد لله من حجة في أرضه ، وإمامنا المهدي محمد بن فلان بن فلان بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق المقيم ببلاد المغرب ، ولسنا كالرافضة ، ( والاثني عشرية ) الذين يقولون بجهلهم إن لهم إماما ينتظرونه ، ويكذب بعضهم لبعض فيقول : قد رأيته وسمعته وهو يقرأ ، ولا ينكرون بجهلهم وغباوتهم أنه لا يجوز أن يعطى من العمر ما يظنونه ، فقال له : قد خالطت عسكرنا وعرفتهم ، فمن فيهم على مذهبك ؟ فقال : وأنت بهذا العقل تدبر الوزارة ، كيف تطمع مني أنني أسلم قوما مؤمنين إلى قوم كافرين يقتلونهم ؟ لا أفعل ذلك . فأمر به فضرب ضربا شديدا ، ومنع الطعام والشراب فمات بعد ثلاثة أيام .
وقد كان ابن أبي الساج قبل قتاله القرامطة قد قبض على وزيره محمد بن خلف النيرماني وجعل مكانه أبا علي الحسن بن هارون ، وصادر محمدا على خمسمائة ألف دينار ، وكان سبب ذلك أن النيرماني عظم شأنه ، وكثر ماله ، فحدث نفسه بوزارة الخليفة ، فكتب إلى نصر الحاجب يخطب الوزارة .
ويسعى بابن أبي الساج ، ويقول له : إنه قرمطي يعتقد إمامة العلوي الذي بإفريقية ، وإنني ناظرته على ذلك ، فلم يرجع [ ص: 715 ] عنه ، وإنه لا يسير إلى قتال ، وإنما يأخذ المال بهذا السبب ، ويقوى به على قصد حضرة السلطان ، وإزالة الخلافة عن أبي طاهر القرمطي بني العباس ، وطول في ذلك وعرض .
وكان لمحمد بن خلف أعداء قد أساء إليهم من أصحاب ابن أبي الساج ( فسعوا به ، فأعلموا يوسف بن أبي الساج ) ذلك ، وأروه كتبا جاءته من بغداذ في المعنى من نصر الحاجب وفيها رموز إلى قواعد قد تقدمت وتقررت ، وفيها الوعد له بالوزارة ، وعزل علي بن عيسى الوزير ، فلما علم ذلك ابن أبي الساج قبض عليه ، فلما أسر ابن أبي الساج تخلص من الحبس ، وكان ابن أبي الساج يسمى الشيخ الكريم لما جمع الله فيه من خلال الكمال والكرم .