وقوله: "فإن المبرزين المنفقين أيامهم لسرعة الوقوف على المعاني الغامضة، يحتاجون في تفهم هذه المعاني إلى فضل إيضاح، وشرح وعبارة، فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب؟
فهذا الكلام حجة له على إخوانه الجهمية، من المعتزلة وأتباعهم الذين يقولون: إن التوحيد الحق هو قول أهل السلب نفاة الصفات، ولا ريب أن فهم قولهم فيه غموض ودقة، لأنه قول متناقض فاسد، أعظم تناقضا من قول النصارى، كما قد بين في [ ص: 61 ] موضعه، فما يفهمه إلا الذكي الذي مرن ذهنه على تسليم المقدمات، التي بها يفسدون ذهنه، أو على تصور أقوالهم المتناقضة، فإن كان من متابعيهم نقلوه من درجة إلى درجة، كما تفعل نفاة الصفات، القرامطة بنقل المستجيبين لهم من درجة إلى درجة، وكذلك هؤلاء الجهمية النفاة لا يمكنهم أن يخاطبوا ذكيا ولا بليدا بحقيقة قولهم، إن لم يتقدم قبل ذلك منه تسليم لمقدمات وضعوها، تتضمن ألفاظا مجملة، يلبسون بها عليه الحق بالباطل، فيبقى ما سلمه لهم من المقدمات، مع ما فيه من التلبيس والإبهام، حجة لهم عليه فيما ينازعهم فيه، إلى أن يخرجوه - إن تمكنوا - من العقل والدين، كما تخرج الشعرة من العجين، فإن من درجات دعوتهم "الخلع" و"السلخ" وأمثال هذه العبارات.
وقد رأيت كتبهم فرأيتهم يحتجون على طوائف المسلمين الذين فيهم بدعة بما وافقوهم عليه من البدعة، كما احتج على ابن سينا المعتزلة، ونحوهم من نفاة الصفات، بما وافقوه عليه من هذه الأقوال المبتدعات، وإلا فالفطر السليمة تنكر أقوال النفاة، إذ قد توافق على إنكارها الفطر والمعقول، والسمع المنقول، وإنما يخالف بنوع من الشبه الدقيقة، التي هي من أبطل الباطل في الحقيقة.
ولقد حدثني بعض أصحابنا أن بعض الفضلاء، الذين فيهم نوع [ ص: 62 ] من التجهم، عاتبه بعض أصحابه على إمساكه عن الانتصار لأقوال النفاة، لما ظهر قول الإثبات في بلدهم، بعد أن كان خفيا، واستجاب له الناس، بعد أن كان المتكلم به عندهم قد جاء شيئا فريا، فقال: "هذا إذا سمعه الناس قبلوه وتلقوه بالقبول، وظهر لهم أنه الحق الذي جاء به الرسول، ونحن إذا أخذنا الشخص فربيناه وغذيناه ودهناه ثلاثين سنة، ثم أردنا أن ننزل قولنا في حلقه، لم ينزل في حلقه إلا بكلفة".
وهو، كما قال، فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والنور، وبين الباطل والظلام، وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها، ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق، لم يكن النظر والاستدلال ولا الخطاب والكلام، كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب، ولولا ذلك لما أمكن تغذيتها وتربيتها، وكما أن في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي، ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك.
وهذا، كما أن لأرباب السحر والنيرنجيات وعمل الكيمياء وأمثالهم، ممن يدخل في الباطل الخفي الدقيق، يحتاج إلى أعمال [ ص: 63 ] عظيمة، وأفكار عميقة، وأنواع من العبادات والزهادات والرياضات، ومفارقة الشهوات والعادات، ثم آخر أمرهم الشك بالرحمن، وعبادة الطاغوت والشيطان، وعمل الذهب المغشوش، والفساد في الأرض، والقليل منهم من ينال بعض غرضه، الذي لا يزيده من الله إلا بعدا، وغالبهم محروم مأثوم، يتمنى الكفر والفسوق والعصيان، وهو لا يحصل إلا على نقل الأكاذيب وتمني الطغيان، سماعون للكذب أكالون للسحت، عليهم ذلة المفترين.
كما قال تعالى: إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين [سورة الأعراف: 152].
ولهذا تجد أهل هذه الأباطيل الصعبة الشديدة في الغالب: إما ملحدا من أهل النفي والتكذيب، وإما جاهلا قد أضلوه ببعض شبهاتهم.