وقال عن ابن أبي نجيح مجاهد: كما بدأكم تعودون ، قال: شقيا وسعيدا. وقال غيره عن مجاهد: كما بدأكم تعودون ، قال: يبعث المسلم مسلما والكافر كافرا. [ ص: 413 ]
وقال عن الربيع بن أنس أبي العالية: كما بدأكم تعودون قال: عادوا إلى علمه فيهم، فريقا هدى، وفريقا حق عليهم الضلالة) .
قلت: وأما كون ذلك تفسير الآية، فهذا مقام آخر ليس هذا موضعه. ما في هذه الأقوال من إثبات علم الله وقدره السابق، وأن الخلق يصيرون إلى ذلك، حق لا محالة، كما دل عليه الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة،
ولفظ (بدأ الله الخلق) : يراد به ابتداء تكوينهم، وهو ظاهر القرآن. وقد يراد به ابتداء أسباب خلقهم وعلامات ذلك، كما في قول السائل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي: رأت أنني حين ولدتني كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام» . « ما كان أول أمرك؟ قال: دعوة أبي
قال: (وقال آخرون: معنى قوله: أن الله فطرهم على الإنكار والمعرفة، وعلى الكفر والإيمان، فأخذ من ذرية « كل مولود يولد على الفطرة» آدم الميثاق حين خلقهم، فقال ألست بربكم؟ قالوا جميعا: [ ص: 414 ] بلى، فأما أهل السعادة فقالوا: بلى، على معرفة له طوعا من قلوبهم، وأما أهل الشقاء فقالوا: بلى، كرها غير طوع.
قالوا: ويصدق ذلك قوله: وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها [سورة آل عمران:83]، قالوا: وكذلك قوله: كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة [سورة الأعراف:29-30]، قال وسمعت محمد بن نصر المروزي: يذهب إلى هذا المعنى. واحتج بقول إسحاق بن إبراهيم - يعني ابن راهويه - أبي هريرة: فطرت الله التي فطر الناس عليها [سورة الروم:30]. قال اقرءوا إن شئتم: إسحاق: يقول: (لا تبديل للخلقة التي جبل عليها ولد آدم كلهم، يعني من الكفر والإيمان، والمعرفة والإنكار، واحتج إسحاق بقول الله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم سورة الأعراف:172]. قال: إسحاق: أجمع أهل العلم أنها الأرواح قبل الأجساد: استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فقال: انظروا ألا تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل) .
وذكر (حديث في قصة الغلام الذي قتله أبي بن كعب الخضر. [ ص: 415 ]
قال: وكان الظاهر ما قال موسى: أقتلت نفسا زاكية بغير نفس؟ فعلم الله الخضر ما كان الغلام عليه في الفطرة التي فطره عليها، وأنه لا تبديل لخلق الله: فأمر بقتله؛ لأنه كان قد طبع يوم طبع كافرا) .
وروى إسحاق حديث أبي بن كعب. الخضر طبعه الله يوم طبعه كافرا» . وهذا الحديث رواه « عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: الغلام الذي قتله مسلم.
وروى وغيره (عن البخاري أنه كان يقرأها: وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين. قال ابن عباس إسحاق: فلو ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس ولم يبين لهم حكم الأطفال، لم يعرفوا المؤمنين منهم من الكافرين، لأنهم لا يدرون ما جبل كل واحد منهم عليه حين أخرج من ظهر آدم، فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- حكم [ ص: 416 ] الطفل في الدنيا فقال: ، « أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» ويعلم ذلك فضل يقول: أنتم لا تعلمون ما طبع عليه في الفطرة الأولى، ولكن حكم الطفل في الدنيا حكم أبويه، فاعرفوا ذلك بالأبوين، فمن كان صغيرا بين أبوين كافرين ألحق بحكم الكفار، ومن كان صغيرا بين أبوين مسلمين ألحق بحكم الإسلام، وأما إيمان ذلك وكفره مما يصير إليه فعلم ذلك إلى الله، الخضر موسى إذ أطلعه الله عليه في ذلك الغلام وخصه بذلك العلم.
قال: (ولقد « سئل عن الولدان: ولدان المسلمين والمشركين، فقال ابن عباس حسبك ما اختصم فيه ابن عباس: موسى والخضر قال: إسحاق: ألا ترى إلى حين مات صبي من الأنصار بين أبوين مسلمين [ ص: 417 ] فقالت عائشة طوبى له عصفور من عصافير الجنة. فرد عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك وقال: مه يا عائشة: وما يدريك؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلها، وخلق النار وخلق لها أهلها» عائشة، . قال قول إسحاق: فهذا الأصل الذي يعتمد عليه أهل العلم) .
(وسئل عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: حماد بن سلمة ، فقال: هذا عندنا حيث أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم. « كل مولود يولد على الفطرة»
قال (وقال ابن عبد البر: يريد حين مسح ظهر ابن قتيبة: آدم فاستخرج منه ذريته إلى يوم القيامة أمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى) .
قلت: مقصود حماد وإسحاق ومالك ومن اتبعهم وابن المبارك، كابن قتيبة، وابن بطة، وغيرهم، هو منع والقاضي أبي يعلى، القدرية بهذا الحديث على نفي القدر، وهذا مقصود صحيح. ولكن سلكوا في حصوله طرقا بعضها صحيح وبعضها ضعيف. [ ص: 418 ] احتجاج
كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ثبت عنه أنه قال: « آدم وموسى، فقال موسى: ربنا أرنا أبانا آدم الذي أخرجنا من الجنة. فقال له: أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال له آدم: أنت موسى الذي كلمك الله تكليما، وخط لك التوراة بيده، فبكم تجد علي مكتوبا قبل أن أخلق: وعصى آدم ربه فغوى [سورة طه:121]؟ قال: بأربعين خريفا. قال: فحج آدم موسى» . فبهذا الحديث في الصحيحين من حديث احتج وهو مروي بإسناد جيد من حديث أبي هريرة، عمر.
فلما توهم من توهم أن ظاهره أن المذنب يحتج بالقدر على من لامه على الذنب، اضطربوا فيه: فكذب به طائفة من القدرية وتأوله طائفة من كالجبائي، أهل السنة تأويلات ضعيفة قصدا لتصحيح الحديث، ومقصودهم صحيح. لكن طريقهم في رد قول القدرية وتفسير الحديث ضعيفة، كقول بعضهم إنما حجه لكونه أباه، وقول الآخر: لكونه كان قد تاب، وقول الآخر: لكون الذنب كان في شريعة والملام في أخرى، وقول الآخر: حجه لأن الاحتجاج به كان في الآخرة [ ص: 419 ] دون الدنيا، وقول الآخر: الاحتجاج بالقدر ينفع الخاصة المشاهدين لجريان القدر عليهم دون العامة، فإن الحديث صريح بأن آدم احتج بالقدر وحج به موسى.
وأيضا فموسى أعلم من أن يلوم تائبا، وموسى وآدم أعلم من أن يظنا أن القدر حجة لأحد في ذنب، فإن هذا لو كان حقا لكان حجة لإبليس وفرعون، وكل كافر وفاسق.