الخامس: أن الدليل المشروط بعدم المعارض لا يكون قطعيا، لأن القطعي لا يعارضه ما يدل على نقيضه، بل غاية الأمر: أن يظن الصدق فيما أخبر به الرسول. فلا يكون العقل دالا على صحة شيء مما جاء به السمع،
وحينئذ فقولك: «إنه تعارض العقل والنقل» قول باطل، لأن العقل عندك قطعي، والشرع ظني، ومعلوم أنه لا تعارض بين القطعي والظني. [ ص: 186 ]
فإن قيل: نحن جازمون بصدق الرسول فيما أخبر به، وأنه لا يخبر إلا بحق، لكن إذا احتج محتج على خلاف ما اعتقدناه بشيء مما نقل عن الرسول يقبل هذه المعارضة للقدح: إما في الإسناد وإما في المتن:
إما أن نقول: النقل لم يثبت، إن كان مما لم تعلم صحته، كما تنقل أخبار الآحاد وما ينقل عن الأنبياء المتقدمين.
وإما في المتن بأن نقول: دلالة اللفظ على مراد المتكلم غير معلومة، بل مظنونة، إما في محل النزاع، وإما فيما هو أعم من ذلك، فنحن لا نشك في صدق الرسول، بل في صدق الناقل، أو دلالة المنقول على مراده.
قيل: هذا العذر باطل في هذا المقام لوجوه:
أحدها: أن يقال لكم: فإذا علمتم أن الرسول أراد هذا المعنى، إما أن تعلموا مراده بالاضطرار، كما يعلم أنه أتى بالتوحيد والصلوات الخمس والمعاد بالاضطرار، وإما بأدلة أخرى نظرية، وقد قام عندكم القاطع العقلي على خلاف ما علمتم أنه أراده، فكيف تصنعون؟
فإن قلتم: نقدم العقل، لزمكم ما ذكر من فساد العقل المصدق للرسول، مع الكفر وتكذيب الرسول.
وإن قلتم: نقدم قول الرسول، أفسدتم قولكم المذكور الذي قلتم فيه العقل أصل النقل، فلا يمكن تقديم الفرع على أصله.
وإن قلتم: يمتنع معارضة العقل الصريح بمثل هذا السمع، لأنا علمنا مراد الرسول قطعا. [ ص: 187 ]
قيل لكم: وهكذا يقول كل من علم مراد الرسول قطعا: يمتنع أن يقوم دليل عقلي يناقضه، وحينئذ فيبقي الكلام: هل قام سمعي قطعي على مورد النزاع أم لا؟ ويكون دفعكم للأدلة السمعية بهذا القانون باطلا متناقضا.
الوجه الثاني: أنه إذا كنتم لا تردون من السمع إلا ما لم تعلموا أن الرسول أرداه، دون ما علمتم أن الرسول أراده، بقي احتجاجكم بكون العقل معارضا للسمع احتجاجا باطلا لا تأثير له.
الثالث: أنكم تدعون في مواضع كثيرة أن الرسول جاء بهذا، وأنا نعلم ذلك اضطرارا، ومنازعوكم يدعون قيام القاطع العقلي على مناقض ذلك كما في المعاد وغيره، فكذلك يقول منازعوكم في العلو والصفات: إنا نعلم اضطرارا مجيء الرسول بهذا، بل هذا أقوى، كما بسط في موضع آخر.