ومما يبين أصل الكلام في هذا المقام أنه قد أو تحصل بهذا تارة وهذا تارة؟. تنازع الناس في أصل المعرفة بالله: هل تحصل ضرورة في قلب العبد؟ أو لا تحصل إلا بالنظر؟
فذهب كثير من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية، ومن وافقهم من الطوائف، من أصحاب أحمد ومالك والشافعي [ ص: 353 ] وغيرهم، إلى أنها لا تحصل إلا بالنظر، وهؤلاء يقولون في أول واجب على العبد: [هل] هو النظر والاستدلال المؤدي إلى معرفة الله أو المعرفة؟ وقد تنازعوا في ذلك على قولين ذكرهما هؤلاء الطوائف من أصحاب وأبي حنيفة وغيرهم. أحمد
والنزاع لفظي، فإن النظر واجب وجوب الوسيلة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به، والمعرفة واجبة وجوب المقاصد. فأول واجب وجوب الوسائل هو النظر، وأول واجب وجوب المقاصد هو المعرفة. ومن هؤلاء من يقول: أول واجب هو القصد إلى النظر. وهو أيضا نزاع لفظي فإن العمل الاختياري مطلقا مشروط بالإرادة، وحكي عن أبي هاشم أنه قال: أول الواجبات الشك. وقال كثير من أهل الكلام والصوفية والشيعة وغيرهم: إن المعرفة يبتديها الله اختراعا في قلوب العقلاء البالغين من غير سبب يتقدم، وغير نظر وبحث، وأنها تقع ضرورة. ويذكر ذلك عن صالح قبة وفضل الرقاشي وغيرهما [ ص: 354 ] وعن أنه قال: معرفة الله ضرورية، وأنها تقع في طباع نامية عقب النظر والاستدلال، وأن العبد غير مأمون بها. ويذكر نحو ذلك عن الجاحظ ثمامة بن أشرس.
وذكروا عن أنه قال: معرفة الله واقعة باختيار الله لا باختيار العبد، لأن العبد لا يفعل شيئا. الجهم
وقال جمهور طوائف المسلمين: يمكن أن تقع ضرورة، ويمكن أن تقع بالنظر. بل قال كثير من هؤلاء: إنها تقع بهذا تارة وبهذا تارة، فالذين جوزوا وقوعها ضرورة هم عامة أهل السنة وسائر المثبتين للقدر وغيره. كالأشعري
وتنازع نظارهم: هل ذلك بطريق خرق العادة أو هو معتاد؟ على قولين. ومن هؤلاء القائلين بأنها تحصل تارة بالضرورة وتارة بالنظر أبو حامد والرازي وغيرهم. والآمدي
ولهذا لما أوردوا عليهم في مسألة وجوب النظر: أن المعرفة قد [ ص: 355 ] تحصل بغير الحس والخبر والنظر بطريق تصفية النفس، وأنها طريق الصوفية، وأنهم جازمون بما هم عليه من العقائد في المعارف الإلهية بخلاف أصحاب النظر، فإنه قد لا يحصل لهم مثل هذا الجزم.
وإذا كان كذلك فالرياضة إن لم تتعين طريقا إلى تحصيل معرفة الله، فلا أقل من أن تكون هي من جملة الطرق المفيدة لمعرفة الله تعالى.