كما أنه لما سئل والآيات التي ذكر الله فيها أنها متشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله، إنما نفى عن غيره علم تأويلها، لا علم تفسيرها ومعناها، رضي الله تعالى عنه عن قوله تعالى: مالك الرحمن على العرش استوى [طه: 5] كيف استوى؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة ـ وكذلك ربيعة قبله ـ فبين أن معنى الاستواء معلوم، وأن كيفيته مجهولة، فالكيف المجهول هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، وأما ما يعلم من الاستواء وغيره فهو من التفسير الذي بينه الله ورسوله. مالك
وأخبر أنه أنزله لتعقله، ولا يكون التدبر والعقل إلا لكلام بين المتكلم مراده به، فأما من تكلم بلفظ يحتمل معاني [ ص: 279 ] كثيرة ولم يبين مراده منها فهذا لا يمكن أن يتدبر كلامه، ولا يعقل، ولهذا تجد عامة الذين يزعمون أن كلام الله يحتمل وجوها كثيرة، وأنه لم يبين مراده من ذلك قد اشتمل كلامهم من الباطل على ما لا يعلمه إلا الله، بل في كلامهم من الكذب في السمعيات نظير ما فيه من الكذب في العقليات، وإن كانوا لم يتعمدوا الكذب، كالمحدث الذي يغلط في حديثه خطأ، بل منتهى أمرهم: القرمطة في السمعيات، والسفسطة في العقليات، وهذان النوعان مجمع الكذب والبهتان. والله تعالى قد أمرنا أن نتدبر القرآن،
فإذ قال القائل: استوى يحتمل خمسة عشر وجها أو أكثر أو أقل، كان غالطا، فإن قول القائل: استوى على كذا له معنى، وقوله: استوى إلى كذا له معنى، وقوله: استوى وكذا له معنى، وقوله: استوى بلا حرف يتصل به له معنى، فمعانيه تنوعت بتنوع ما يتصل به من الصلات، كحرف الاستعلاء والغاية وواو الجمع، أو ترك تلك الصلات.
وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين أن كلام الله مبين غاية البيان، موفى حق التوفية في الكشف والإيضاح، وقد بسط الكلام على هذا النص وغيره، وبين نحو من عشرين دليلا على أن هذه الآية نص في معنى واحد لا يحتمل معنى آخر، وكذلك ذكر هذا في غير هذا النص.
فإن الكلام هنا أربعة أنواع: أحدهما: أن نبين أن ما جاء به الكتاب والسنة فيه الهدى والبيان.
والثاني: أن نبين أن ما يقدر من الاحتمالات فهي باطلة قد دل الدليل الذي به يعرف مراد المتكلم على أنه لم يردها.
الثالث: أن نبين أن ما يدعى أنه معارض لها من العقل فهو باطل.
الرابع: أن نبين أن العقل موافق لها معاضد، لا مناقض لها معارض. [ ص: 280 ]