ونفس المقدمة الهائلة التي جعلوها غاية مطلوبهم -وهو أن كمال النفس في مجرد العلم بالمعقولات- مقدمة باطلة قد بسطنا الكلام عليها في الكلام على معجزات الأنبياء، لما تكلمنا على قولهم إنها قوى نفسانية، وذكرنا قطعة من كلامهم على ذلك، وبينا أن قولهم: "إن كمال النفس في مجرد العلم بالمعقولات" خطأ وضلال، ومن هنا جعلوا الشرائع مقصودها إما إصلاح الدنيا وإما تهذيب النفس لتستعد للعلم، أو لتكون الشريعة أمثالا لتفهيم المعاد في [ ص: 270 ] العقليات، كما يقوله الملاحدة الباطنية مثل أبي يعقوب السجستاني وأمثاله، ولهذا لا يوجبون العمل بالشرائع على من وصل إلى حقيقة العلم، ويقولون: إنه لم يجب على الأنبياء ذلك، وإنما كانوا يفعلونه لأنه من تمام تبليغهم الأمم ليقتدوا بهم في ذلك، لا لأنه واجب على الأنبياء، وكذلك لا يجب عندهم على الواصلين البالغين من الأمة والعلماء.
ودخل في ذلك طائفة من ضلال المتصوفة، ظنوا أن غاية العبادات هو حصول المعرفة، فإذا حصلت سقطت العبادات، وقد يحتج بعضهم بقوله واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [سورة الحجر: 99] ويزعمون أن اليقين هو المعرفة، وهذا خطأ بإجماع المسلمين -أهل التفسير وغيرهم- فإن وأن المسلمين متفقون على أن وجوب العبادات (كالصلوات الخمس ونحوها) وتحريم المحرمات (كالفواحش والمظالم) لا يزال واجبا على كل أحد ما دام عقله حاضرا، ولو بلغ ما بلغ، مع أن من زال عقله بالنوم فإنه يقضيها -بالسنة المستفيضة المتلقاة بالقبول واتفاق العلماء- وأما من زال عقله بالإغماء ونحوه مما يعذر فيه، ففيه نزاع مشهور: منهم من يوجب قضاءها مطلقا الصلوات لا تسقط عن أحد قط إلا عن الحائض والنفساء أو من زال عقله، ومنهم من لا يوجبه كأحمد، ومنهم من يوجب قضاء ما [ ص: 271 ] قل، وهو ما دون اليوم والليلة أو صلوات اليوم والليلة، كما هو مذهب كالشافعي، أبي حنيفة والمجنون لا يقضي عند عامتهم، وفيه نزاع شاذ. ومالك.
فالمقصود من هذا أن الصلوات الخمس لا تسقط عن أحد له عقل، سواء كان كبيرا أو صالحا أو عالما. وما يظنه طوائف من جهال العباد وأتباعهم، وجهال النظار وأتباعهم، وجهال الإسماعيلية والنصيرية -وإن كانوا كلهم جهالا- من سقوطها عن العارفين أو الواصلين أو أهل الحضرة، أو عمن خرقت لهم العادات، أو عن الأئمة الإسماعيلية، أو بعض أتباعهم، أو عمن عرف العلوم العقلية، أو عن المتكلم الماهر في النظر، أو الفيلسوف الكامل في الفلسفة، فكل ذلك باطل باتفاق المسلمين وبما علم بالاضطرار من دين الإسلام.
واتفق علماء المسلمين على أن فإنه لا نزاع بينهم في قتل الجاحد لوجوبها، وإنما تنازعوا في قتل من أقر بوجوبها وامتنع من فعلها، مع أن أكثرهم يوجب قتله. الواحد من هؤلاء يستتاب، فإن تاب وأقر بوجوبها وإلا قتل،
ثم الواحد من هؤلاء إذا عاد واعترف بالوجوب فهل عليه قضاء ما تركه، فهذا على ثلاثة أنواع: أحدها أن يكون قد صار مرتدا ممتنعا [ ص: 272 ] عن الإقرار بما فرضه الرسول، فهذا حكمه حكم المرتدين، وفيه للعلماء ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يقضي ما تركه في الردة ولا قبلها -لا من صلاة ولا صيام ولا زكاة- بناء على أن الردة أحبطت عمله، وأنه إذا عاد عاد بإسلام جديد فيستأنف العمل، كما هو معروف في مذهب أبي حنيفة وقول في مذهب ومالك، والثاني: أنه يقضي ما تركه في الردة وقبلها، وهذا قول أحمد، وإحدى الروايات عن الشافعي، والثالث: أنه لا يقضي ما تركه في الردة، ويقضي ما تركه قبلها، كالرواية المشهورة عن أحمد. أحمد.
وإن كان الواحد من هؤلاء جاهلا وهو مصدق للرسول، لكن ظن أن من دينه سقوط هذه الواجبات عن بعض البالغين، كما يظن ذلك طوائف ممن صحب الشيوخ الجهال، وكما يظنه طائفة من الشيوخ الجهال، ولهم مع ذلك أحوال نفسانية وشيطانية.
فهؤلاء مبنى أمرهم على أن فهل يقضي؟ وفيه ثلاثة أقوال: منها وجهان في مذهب من ترك الصلاة قبل العلم بوجوبها أحدهما: أنه لا قضاء عليه بحال، بناء على أن حكم الخطاب لا يثبت [ ص: 273 ] في حق العبد إلا من بعد بلوغ الخطاب إليه. والثاني: عليه القضاء بكل حال، كما يقوله من يقوله من أصحاب أحمد: وغيره. والثالث: يفرق بين من أسلم في دار الحرب ومن أسلم في غيرها، كما يقول ذلك من يقوله من أصحاب الشافعي والأول أظهر الأقوال. أبي حنيفة،