بخلاف تبديل الكفر بالإيمان وبالعكس، فإنه يبدله دائما، والعبد قادر على تبديله بإقدار الله له على ذلك. وهذا التبديل كله هو بقضاء الله وقدره، وهذا بخلاف ما فطروا عليه حين الولادة، فإن ذاك خلق الله الذي لا يقدر على تبديله غيره، وهو سبحانه لا يبدله قط،
ومما يبين ذلك أنه قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله [سورة الروم:30]، فهذه فطرة محمودة، أمر الله بها نبيه، فكيف يكون فيها كفر وإيمان مع أمر الله تعالى بها؟ وهل يأمر الله تعالى قط بالكفر؟.
وقد تقدم تفسير السلف: لا تبديل لخلق الله تعالى، بأنه: دين الله، أو تبديل خلق الحيوان بالخصاء ونحوه، ولم يقل أحد منهم إن المراد: لا تبديل لأحوال العباد من إيمان إلى كفر ولا من كفر إلى إيمان، إذ تبديل ذلك موجود، ومهما وقع كان هو الذي سبق به القدر، والله تعالى عالم بما [ ص: 427 ] سيكون، لا يقع خلاف معلومه، لكن إذا وقع التبديل كان هو الذي علمه، وإن لم يقع كان عالما بأنه لا يقع.
وأما قوله: الخضر طبع يوم طبع كافرا. فالمراد به: كتب وختم، وهذا من طبع الكتاب، وإلا فاستنطاقهم بقوله: الغلام الذي قتله ألست بربكم قالوا بلى [سورة الأعراف:172] ، ليس هو طبعا لهم، فإنه ليس بتقدير ولا خلق.
ولفظ (الطبع) لما كان يستعمله كثير من الناس في الطبيعة، التي هي بمعنى الجبلة والخليقة، ظن الظان أن هذا مراد الحديث.
وهذا الغلام الذي قتله الخضر قد يقال فيه: إنه ليس في القرآن ما يبين أنه كان غير مكلف، بل ولا ما يبين أنه كان غير بالغ، ولكن قال في الحديث الصحيح: الخضر طبع يوم طبع كافرا، ولو أدرك لأرهق أبويه طغيانا وكفرا. وهذا دليل على كونه لم يدرك بعد، فإن كان بالغا - وقد كفر - فقد صار كافرا بلا نزاع، وإن كان مكلفا قبل الاحتلام في تلك الشريعة، أو على الغلام الذي قتله كما قاله طوائف من أهل الكلام والفقه، من أصحاب قول من يقول: إن المميزين مكلفون بالإيمان قبل الاحتلام، أبي حنيفة وغيرهم - أمكن أن يكون [ ص: 428 ] مكلفا بالإيمان قبل البلوغ، ولو لم يكن مكلفا، فكفر الصبي المميز صحيح عند أكثر العلماء، فإذا ارتد الصبي المميز صار مرتدا، وإن كان أبواه مؤمنين، ويؤدب على ذلك باتفاق العلماء أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة، لكن لا يقتل في شريعتنا حتى يبلغ. وأحمد
فالغلام الذي قتله الخضر: إما أن يكون كافرا بالغا كفر بعد البلوغ فيجوز قتله، وإما أن يكون كافرا قبل البلوغ وجاز قتله في تلك الشريعة، وقتل لئلا يفتن أبويه عن دينهما، كما يقتل الصبي الكافر في ديننا، إذا لم يندفع ضرره عن المسلمين إلا بالقتل.
بل الصبي الذي يقاتل المسلمين يقتل، فقتل الصبي الكافر المميز يجوز لدفع صياله الذي لا يندفع إلا بالقتل. وأما قتل صبي لم يكفر بعد، بين أبوين مؤمنين، للعلم بأنه إذا بلغ كفر وفتن، فقد يقال إنه ليس في القرآن ما يدل عليه، ولا في السنة.
وقد يقال: بل في السنة ما يدل عليه، ومنه قول ابن عباس لنجدة الحروري لما سأله عن قتل الغلمان: إن علمت منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتله وإلا فلا. رواه [ ص: 429 ] مسلم.
والمعلوم من الكتاب والسنة لا يعارض إلا بما يصلح أن يعارض به. ومن قال بالأول يقول: إن الله تعالى لم يأمر أن يعاقب أحد بما يعلم أنه يكون منه قبل أن يكون منه، ولا هو سبحانه يعاقب العباد بما يعلم أنهم سيعملونه حتى يفعلوه.
ويقول قائل هذا القول: إنه ليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه عموم الناس، وإنما فيها علمه بأسباب لم يكن علم بها موسى، مثل علمه بأن السفينة لمساكين ووراءهم ملك ظالم، وهذا أمر يعلمه غيره. وكذلك كون الجدار كان لغلامين يتيمين، وأن أباهما كان رجلا صالحا، هذا مما قد يعلمها كثير من الناس، فكذلك كفر الصبي مما يمكن أنه كان يعلمه كثير من الناس حتى أبواه، لكن لحبهما له لا ينكران عليه، أو لا يقبل منهما الإنكار عليه.
فإن كان الأمر على ذلك، فليس في الآية حجة أصلا، وإن كان ذلك الغلام لم يكفر بعد أصلا، ولكن سبق في العلم أنه إذا بلغ كفر. فهذا أيضا يبين أنه قتل قبل أن يصير كافرا، ومن قال هذا يقول: إنه قتل دفعا لشره.
كما قال نوح: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [سورة نوح:26-27] [ ص: 430 ]
فقد دعا نوح -عليه السلام- بهلاكهم لدفع شرهم في المستقبل، وعلى هذا فلم يكن قبل قيام الكفر به كافرا.
وقول وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه مؤمنين، ظاهره أنه كان حينئذ كافرا. وأما تفسير قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ابن عباس: أنه أراد به مجرد الإلحاق في أحكام الدنيا، دون أن يكون أراد أنهما يغيران الفطرة، فهذا خلاف ما يدل عليه الحديث، فإنه شبه تكفير الأطفال بجدع البهائم تشبيها للتغيير بالتغيير. « فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»