مثل قوله في كتابه الذي سماه تهافت التهافت فإنه قال: وأيضا فالذي يلزم الأشعرية للتجسيم من المحال أكثر من الذي يلزم مقدماتهم، التي منها صاروا إلى التجسيم، وذلك أنه إن كان مبدأ الموجودات ذاتا ذات حياة وعلم وقدرة وإرادة، وكانت هذه الصفات زائدة على الذات، وتلك الذات غير جسمانية، فليس بين النفس وهذا الموجود فرق، إلا أن النفس هي في جسم، وهذا الموجود هو نفس ليس في جسم، وما كان بهذه الصفة فهو ضرورة مركب من ذات وصفات، وكل مركب فهو محتاج ضرورة إلى مركب؛ إذ ليس يمكن أن يوجد شيء مركب في ذاته، كما أنه ليس يمكن أن يوجد متكون من ذاته؛ لأن التكوين -الذي هو فعل المكون- ليس هو شيئا غير تركيب المتكون، والمكون ليس شيئا غير المركب. [ ص: 252 ]
وبالجملة فكما أن لكل مفعول فاعلا، كذلك لكل مركب مركبا فاعلا؛ لأن التركيب شرط في وجود المركب ولا يمكن أن يكون الشيء هو علة في شرط وجوده؛ لأنه كان يلزم أن يكون الشيء علة نفسه. ولذلك كانت المعتزلة في وضعهم هذه الصفات في المبدإ الأول -راجعة إلى الذات، لا زائدة عليها، على نحو ما يوجد عليه كثير من الصفات الذاتية لكثير من الموجودات، مثل كون الشيء موجودا وواحدا وأليا وغير ذلك- أقرب إلى الحق من الأشعرية.
قال: ومذهب الفلاسفة في المبدإ الأول هو قريب من مذهب المعتزلة.
فيقال له: قولك: "ليس بين النفس وبين هذا الموجود فرق، إلا من جهة أنها في جسم" خطأ محض.
وذلك أن اتفاق الشيئين في بعض الصفات لا يوجب تماثلهما في الحقيقة؛ إذ لو كان كذلك لكانت المختلفات متماثلات، فإن السواد مخالف للبياض، وهو يشاركه في كون كل منهما لونا وعرضا وقائما بغيره.
وأيضا فمحققو الفلاسفة توافق على أن الأجسام ليست متماثلة، مع اشتراكها في التحيز، وقبول الأعراض، وغير ذلك من الأحكام. والحيوان الصغير الحي، مثل البعوض والبق والذباب، ليس مثلا للإنسان ولا للملك ولا للجني، وإن كان كل منهما حيا قادرا شاعرا متحركا بالإرادة. [ ص: 253 ]
والفلك عندهم حي ناطق، وليس مثل بدن الإنسان، الذي هو حي ناطق.