قال أبو البركات: فأما القول بإيجاب الغيرية فيه، بإدراك الأغيار، والكثرة بكثرة المدركات -فجوابه المحقق: أنه لا يتكثر بذلك تكثرا في ذاته، بل في إضافاته ومناسباته، وتلك مما لا تعيد الكثرة على هويته وذاته ولا الوحدة التي أوجبت له وجوب وجوده بذاته. ومبدئيته الأولى التي بها عرفناه، وبحسبها أوجبنا له ما أوجبنا، وسلبنا عنه [ ص: 424 ] ما سلبنا، هي وحدة مدركاته ونسبته وإضافاته، بل إنما هي وحدة حقيقته وذاته وهويته. فأما أن يتغير بإدراك المتغيرات، فذلك أمر إضافي، لا معنى في نفس الذات، وذلك مما لا تبطله الحجة، ولم يمنعه برهان، ونفيه من طريق التنزيه والإجلال لا وجه له، بل التنزيه من هذا التنزيه والإجلال من هذا الإجلال أولى. ولا تعتقدن أن الوحدة المقولة في صفات واجب الوجود بذاته، قيلت على طريق التنزيه، بل لزمت بالبرهان عن مبدئيته الأولى، ووجوب وجوده بذاته، والذي لزم عن ذلك لم يلزم إلا في حقيقته وذاته، لا في مدركاته ومضافاته،
قلت: أرسطو إنما اعتمد على نفي التغير إذا علم شيئا بعد شيء، فأما كثرة المعلومات مع قدم العلم فلم يتعرض له، وكأنه عنده غير ممكن.
قال أبو البركات: فأما الذي قيل في منع التغير مطلقا، حتى يمنع التغير في المعارف والعلوم، فهو غير لازم في التغير مطلقا، بل هو غير لازم ألبتة، وإن لزم كان لزومه في بعض تغيرات الأجسام، مثل الحرارة والبرودة، في بعض الأوقات، لا في كل حال ووقت، ولا يلزم مثل ذلك في النفوس التي تخصها المعرفة والعلم دون الأجسام، فإنه يقول: إن [ ص: 425 ] كل تغير وانفعال فإنه يلزم أن يتحرك قبل ذلك المتغير حركة مكانية.
قال أبو البركات: وهذا محال، فإن النفوس تتجدد لها المعارف والعلوم، من غير أن تتحرك في المكان على رأيه، فإنه لا يعتقد فيها أنها تكون في مكان ألبتة، فكيف أن تتحرك فيه؟ وإنما ذلك للأجسام في بعض الذوات والأحوال، كالتسخن والتبرد، ولا يلزم فيها أبدا، فإن الحجر الكبير يسخن ولا يصعد، ويبرد ولا يهبط، بل ولا يتحرك من مكانه، وإنما ذلك مما يصعد بالبخار من الماء، ويدخن من الأرض من الأجزاء التي هي كالهباء، دون غيرها من الأحجار الكبار الصلبة، التي تحمى حتى تصير بحيث تحرق وهي في مكانها لا تتحرك.
والماء يسخن سخونة كثيرة وهو في مكانه لا يتبخر، وإنما تتبخر منه بعض الأجزاء، ثم تكون الحركة المكانية بعد الاستحالة لا قبلها، كما قال: إن جميع هذه هي حركات توجد بأخرة بعد الحركة المكانية. [ ص: 426 ]
وفيما عدا ذلك فقد يسود الجسم ويبيض، وهو في مكانه لم يتحرك، ولا يتحرك قبل الاستحالة ولا بعدها، فما لزم هذا في كل جسم، بل في بعض الأجسام، ولا في كل حال ووقت، بل في بعض الأحوال والأوقات، ولا كان ذلك على طريق التقدم كما قال، بل على طريق التبع.
ولو لزم في التغيرات الجسمانية لما لزم في التغيرات النفسانية، ولو لزم في التغيرات النفسانية أيضا، لما لزم انتقال الحكم فيه إلى المتغيرات في المعارف والعلوم، والعزائم والإرادات.
فالحكم الجزئي لا يلزم كليا، ولا يتعدى من البعض إلى البعض، وإلا لكانت الأشياء كلها على حال واحدة.
وهو قدم هذا على كلامه في العلم، حتى يجري عليه الحكم في المعرفة والعلم، فاعتبر بهذا، فإن استقصى لهذا القول البحث أمكن أن يرجع إلى أصل، ويصح على وجه، لكنه مع ذلك لا ينتصر به القول، الذي أبطلوا به معرفة الله وعلمه بالحوادث.
فأما الأصل الذي يرجع إليه باستقصاء النظر في التأويل له، فهو أن يقال: إن الشيء إذا تسخن بعد برده، أو تبرد بعد سخونة، وتبيض [ ص: 427 ] بعد سواد، وتسود بعد بياض، بسبب يقرب منه بعد بعد يؤثر فيه، ذلك إما بحركته إلى السبب، وإما بحركة السبب إليه، فإن الماء يسخن بعدما كان باردا بحرارة النار مثلا التي يقرب منها، إما بحركة النار إليه، أو بحركته هو إليها.
كذلك المبيض بعد اسوداده، يتحرك إلى المسود، أو يتحرك المسود إليه، فتتقدم الحركة المكانية بهذا البيان سائر الحركات، وتتقدم الدورية المستمرة الدائمة، على المستقيمة المنقطعة ذات البداية والنهاية المحدودتين، فهكذا يصح أن يقال: تتقدم الحركة الدورية على سائر الحركات والتغيرات، فيصح ذلك في الأجسام الداخلة تحت الكون والفساد، بالتغيرات المحدودة في التكيفيات المبصرة والملموسة، والأشكال والمقادير وما يتبعها ويتعلق بها، فأما في النفوس والعقول، وفي الله تعالى، فلا يلزم شيء من ذلك بهذا البيان.
قال: وأعجب من هذا قوله بأنه يتعب، حيث قال: وإذا كان هذا هكذا لا محالة إنه يلزمه الكلال والتعب من اتصال المعقولات، وهو القائل في كتاب السماء إنها لا تتعب بدوام حركتها [ ص: 428 ] المتصلة؛ لأن طبعها لا يخالف إرادتها، فجعل علة التعب هناك مخالفة الطبيعة للإرادة، وها هنا كثرة الأفعال واتصالها، وكثرة الخروج من القوة إلى الفعل.
والقوة قوتان: استعداد، وقدرة. والاستعداد إذا كمل بالخروج إلى الفعل صار قدرة، ثم عن القدرة تصدر الأفعال، والتي بمعنى الاستعداد نقص يفتقر إلى كمال، والأخرى كمال تصدر عنه الأفعال.
فهذه القوة من قبيل القدرة الدائمة القارة على حد لا ينقص ولا يزيد، وليست بمعنى الاستعداد الذي يخرج إلى الكمال.
ولو كانت من هذا القبيل لما جاز أن يحكم عليها بالتعب والكلال، بل باللذة والكمال، فإن ما بالقوة يشتاق إلى كماله الذي بالفعل، ومن قبله تكون اللذة والسعادة.
والكلال والتعب إنما يعرضان لنا لا من جهة اتصال أفعالنا، ولا من جهة ازدحامها، بل من جهة تحريك أعضائنا وأرواحنا بتقبلنا وتفكرنا، حركة تخالف مقتضى الطبيعة التي في جوهرنا، كما نفاه عن السماء.
وليس ذلك من جهة الخلاف، فإن القوى المتقاومة قد تتقاوم مدة [ ص: 429 ] فلا يعرض لها تعب، كما لو فرضت مغناطيس علق حديدا زمانا، فإنه لا يتعب ولا تضعف تلك القوة الجاذبة، ولا يبطل ذلك التعلق ما لم يتجدد أمر من خارج، بل لأن الحركة تحل جوهر الروح منا، أعني من أعضائنا؛ لتركيبها من لطيف وكثيف.
واللطيف عرضة للانحلال، والحركة تسبب ذلك له، فإذا انحلت الروح التي بها تعلق القوة المحركة، ضعفت القوة المحركة فينا، وعجزت فيها تعبا وكلالا.
وذلك إنما ارتفع عن السماء لارتفاع التركيب والانحلال، لا لأن الطبيعة لا تضاد الإرادة فيها أو تضادها، فإن ذلك هو سبب بعيد للتعب والكلال، والقريب هو ما ذكرناه. فإذا ارتفع عن السماء لذلك، فلم بالحري أن يرتفع عن سماء السماء، وبسيط البسائط الوحداني الذات؟