وأما قول السائل:
«ما الحكمة في أنه لم يوجد فيه من الشارع نص يعصم من الوقوع في المهالك، وقد كان حريصا على هدي أمته؟» .
فنقول: هذا السؤال مبني على الأصل الفاسد المتقدم المركب من الإعراض عن الكتاب والسنة، وطلب الهدى في مقالات المختلفين المتقابلين في النفي والإثبات للعبارات المجملات المشتبهات، الذين قال الله فيهم: [ ص: 73 ] وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد [البقرة: 176] ، وقال تعالى: وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا [يونس: 19]، وقال تعالى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم [آل عمران: 19] ، وقال تعالى: فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون [المؤمنون: 53] .
وقد تقدم التنبيه على منشأ الضلال في هذا السؤال وأمثاله، وما في ذلك من العبارات المتشابهات المجملات المبتدعات، سواء كان المحدث هو اللفظ ودلالته، أو كان المحدث هو استعمال ذلك اللفظ في ذلك المعنى، كلفظ أصول الدين حيث أدخل فيه كل قوم من المسائل والدلائل ما ظنوه هم من أصول دينهم، وإن لم يكن من أصول الدين الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما ذكرنا، وأنه إذا منع إطلاق هذه المجملات المحدثات في النفي والإثبات ووقع الاستفسار والتفصيل تبين سواء السبيل.
وبذلك يتبين أن وقال تعالى: الشارع عليه الصلاة والسلام نص على كل ما يعصم من المهالك نصا قاطعا للعذر، وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [التوبة: 115] ، وقال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [المائدة: 3] ، وقال تعالى: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [النساء: 165] ، وقال تعالى: وما على الرسول إلا البلاغ المبين [النور: 54] ، وقال [ ص: 74 ] إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [الإسراء: 9] ، وقال تعالى: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما [النساء: 66-68] ، وقال تعالى: قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام [المائدة: 15-16] .
وقال «لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما» . أبو ذر:
وفي صحيح مسلم: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال: أجل» لسلمان: . «أن بعض المشركين قالوا
وقال صلى الله عليه وسلم: وقال: [ ص: 75 ] «تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك». وقال: «ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، ولا من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم عنه». . «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه خيرا لهم ، وينهاهم عن شر ما يعلمه شرا لهم»
وهذه الجملة يعلم تفصيلها بالبحث والنظر والتتبع والاستقراء، والطلب لعلم هذه المسائل في الكتاب والسنة، فمن طلب ذلك وجد في الكتاب والسنة من النصوص القاطعة للعذر في هذه المسائل ما فيه غاية الهدى والبيان والشفاء.
وذلك يكون بشيئين: أحدهما: معرفة معاني الكتاب والسنة.
والثاني: معرفة معاني الألفاظ التي ينطق بها هؤلاء المختلفون، حتى يحسن أن يطبق بين معاني التنزيل ومعاني أهل الخوض في أصول الدين، فحينئذ يتبين له أن الكتاب حاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، كما قال تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه [البقرة: 213]، وقال تعالى: [ ص: 76 ] وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [الشورى: 10]، وقال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا [النساء: 59-61].
ولهذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات، وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق، ولا قصور، أو تقصير في بيان الحق، ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة المشتملة على حق وباطل، ففي إثباتها إثبات حق وباطل، وفي نفيها نفي حق وباطل، فيمنع من كلا الإطلاقين، بخلاف النصوص الإلهية؛ فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل، ولهذا كان ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها: نفيا وإثباتا، لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل، فإذا تبين المعنى أثبت حقه ونفي باطله، بخلاف كلام الله ورسوله، فإنه حق يجب قبوله، وإن لم يفهم معناه، وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه. سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب اتباعه، فيثبتون ما أثبته الله ورسوله، وينفون ما نفاه الله ورسوله،