ثم قال القاضي أبو بكر: ولم زعمتم ذلك؟. [ ص: 335 ] (فإن قال قائل: فما الدليل على أن ما لم يسبق المحدثات محدث، وأنه واجب لا محالة القضاء على حدوث الجسم، متى لم يوجد قبل أول الحوادث،
قيل له: الدليل على هذا قريب واضح: وذلك أنه لا حال للجسم مع الحوادث إلا بثلاثة أحوال:
إما أن يكون موجودا قبل أولها، أو يكون موجودا مع وجودها، أو يكون موجودا بعدها.
فإذا بطل أن يكون الجسم عاريا عن الحوادث ومنفكا من سائرها - وجب أنه ليس له معها إلا حالان: إما أن يكون موجودا مع وجودها، أو بعدها.
فإن كان موجودا مع وجودها، ولوجودها أول: فواجب أن يكون حكمه في الوجود عن أول، وحصوله عن عدم حكمها، وذلك يوجب من حيث شركها في علة الحدوث متى لم يكن سابقا لها.
وإن كان موجودا بعدها: كان أولى بالحدوث منها لوجوده بعدها) .
فهذا منتهى كلام القاضي وأبي الحسن في إثبات الصانع، وكلام أبي الحسن أجود، فإنه بناه على التغير المحسوس في النطفة، لم يحتج من ذلك إلى إثبات جنس الأعراض لكل جسم.
وقول القاضي: إن الدليل على حدوث النطفة وغيرها من الأجسام إذا علق على هذه النكتة، فلا بد فيه من إثبات الأعراض أولا، وعلى حدوثها ثانيا - فليس كما قال. بل عدل عن هذه الطريق [ ص: 336 ] قصدا، كما ذكره في رسالة الثغر، وذم هذه الطريق وعابها. وذلك أن ما ذكره من تحول النطفة وانقلابها أمر مشهود محسوس، لا ينازع فيه عاقل سليم، سواء سمي ذلك التحول عرضا أو لم يسم، وسواء قيل: إن ذلك العرض مغاير للجسم، أو قيل ليس بمغاير له، وتحولها مشهود حدوثه لا يحتاج من ذلك إلى إبطال كمون الأعراض ولا انتقالها. الأشعري
لكن منتهى الدليل إلى مقدمة واحدة: وهو أن ما قامت به الحوادث فهو حادث، بناء على أن ما قامت به لم ينفك عنها، وما لم يسبق الحوادث فهو حادث. وهذه المقدمات فيها نزاع مشهور.