وملخص ذلك في حجة التأثير، الذي يسمى الخلق والإبداع، والتكوين والإيجاب، والاقتضاء والعلية، والمؤثرية، ونحو ذلك ـ أن وعلى كل تقدير فحجة يقال: التأثير في الحوادث: إما أن يكون وجوديا أو عدميا، وإذا كان وجوديا: فإما إن يكون قديما أو حادثا،الفلاسفة باطلة.
أما إن كان عدميا فظاهر، لأنه لا يستلزم حينئذ قدم الأثر، إذ العدم لا يستلزم شيئا موجودا، ولأنه إذ جاز أن يفعل الفاعل للمحدثات بعد أن لم يفعلها من غير تأثير وجودي أمكن حدوث العالم بلا تأثير وجودي، كما هو قول الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وكثير من وأحمد، المعتزلة.
وإن كان وجوديا فإما أن يكون قديما أو محدثا، فإن كان التأثير قديما فإما أن يقال بوجوب كون الأثر متصلا بالتأثير، والمكون متصلا بالتكوين، وإما أن لا يقال بوجوب ذلك، وإما أن يقال بوجوب المقارنة، وإما أن يقال بإمكان انفصال الأثر عن التأثير.
فإن قيل بوجوب ذلك فمعلوم حينئذ بالضرورة أن في العالم حوادث، فيمتنع أن يكون التأثير في كل منها قديما، بل لا بد من تأثيرات حادثة للأمور الحادثة، ويمتنع حينئذ أن يكون في العالم قديم، لأن الأثر إنما يكون عقب التأثير، والقديم لا يكون مسبوقا بغيره.
وإن قيل: إن الأثر يقارن المؤثر فيكون زمانهما واحدا لزم أن لا يكون في العالم شيء حادث، وهو خلاف المشاهدة. [ ص: 359 ]
فإذا قيل بأن: «التأثير لم يزل في شيء بعد شيء» كان كل من الآثار حادثا، ولزم حدوث كل ما سوى الله، وإن كان كل حادث مسبوقا بحادث.
وإن قيل: «بل يتأخر الأثر عن التأثير القديم» لزم إمكان حدوث الحوادث عن تأثير قديم، كما هو قول كثير من أهل النظر.
وهو وهي صفة التخليق، ويقول: إنها قديمة، وهو قول طوائف من الفقهاء من أصحاب قول من يقول بإثبات الصفات الفعلية لله تعالى، أبي حنيفة والشافعي وأحمد، والصوفية، وأهل الكلام، وغيرهم.
وإن كان التأثير محدثا فلا بد له من محدث، فإن قيل بجواز حدوث الحوادث بإرادة قديمة، أو إن القادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بلا مرجح: جاز أن يحدث التأثير قائما بالمؤثر بقدرته، أو بقدرته ومشيئته القديمة، كما يجوز من يجوز وجود المخلوقات البائنة عنه بمجرد قدرته، أو لمجرد قدرته ومشيئته القديمة.
وإن قيل: «لا يمكن حدوث الحوادث إلا بسبب حادث» كان التأثير القائم بالمؤثر محدثا، وإذا كان التأثير محدثا فلا بد له من محدث، وإحداث هذا التأثير تأثير، وحينئذ فيكون تسلسل التأثيرات ممكنا، وإذا كان ممكنا بطلت الحجة، فظهر بطلانها على كل تقدير.
وصاحب «الأربعين» وأمثاله من أهل الكلام إنما لم يجيبوا عنها بجواب قاطع، لأن من جملة مقدماتها أن التسلسل ممتنع، وهم يقولون بذلك، والمحتج بها لا يقول بامتناع التسلسل، فإن الدهرية يقولون بتسلسل الحوادث، فإذا أجيبوا [ ص: 360 ] عنها بجواب مستقيم على كل قول، كان خيرا من أن يجابوا عنها بجواب لا يقول به إلا بعض طوائف أهل النظر، وجمهور العقلاء يقولون: إنه معلوم الفساد بالضرورة.
وقد ذكر الرازي هذه الحجة في غير هذا الموضع، وذكر فيها أن القول بكون التأثير أمرا وجوديا أمر معلوم بالضرورية، ثم أخذ يجيب عن ذلك بمنع كونها وجودية، لئلا يلزم التسلسل.
ومن المعلوم أن المقدمات التي يقول المنازع إنها ضرورية لا يجاب عنها بأمر نظري، بل إن كان المدعي لكونها ضرورية أهل مذهب معين يمكن أنهم تواطؤوا على ذلك القول، وتلقاه بعضهم عن بعض، أمكن فساد دعواهم، وتبين أنها ليست ضرورية، وإن كان مما تقر به الفطر والعقول من غير تواطؤ ولا موافقة من بعضهم لبعض، كالموافقة التي تحصل في المقالات الموروثة، التي تقولها الطائفة تبعا لكبيرها، لم يمكن دفع مثل هذه، فإنه لو دفعت الضروريات التي يقر بها أهل الفطر والعقول من غير تواطؤ ولا تشاعر، لم يمكن إقامة الحجة على مبطل.
وهذا هو السفسطة التي لا يناظر أهلها إلا بالفعل، فكل من جحد القضايا الضرورية المستقرة في عقول بني آدم، التي لم ينقلها بعضهم عن بعض، كان سوفسطائيا.