وقال الشيخ أبو محمد بن عبد البصري في كتابه في أصول السنة والتوحيد: (فصل في الخلق على الفطرة. قال: فطرت الله التي فطر الناس عليها [سورة الروم:30]، وهي الإقرار له بالربوبية، مع معرفة الوحدانية، وذلك أنه سبحانه خلق الخلق على علم منه بهم، مشاهد لما يؤول أمرهم وعواقبهم إليه، فخلقهم على ما علم منهم وشاء، غير مؤمنين ولا كافرين صبغة، بل مقرين عارفين، لا موحدين ولا جاحدين. وكذلك قد روي في الأثر، وخلق الله الخلق على الفطرة، وهو قوله سبحانه: يقول الله تعالى: خلقت خلقي حنفاء مقرين، لا منكرين ولا موحدين، وذلك إثبات ونفي الجبر، فثابت في نظره وعلمه عامة عواقبهم، وله التحكم فيهم، وهو أعدل من أن يضطرهم إلى كفر وغيره، فيبطل بذلك الكسب، وإذا بطل الكسب بطل التكليف والامتحان، إذ التكليف لا يكون جبلا، ولا يقع اضطرارا وجبرا، ولا يكون إلا اختيارا، إذ قد أمروا بها، وأنزل الكتب وأرسل الرسل، وكل [ ص: 495 ] ما منه حق غير عابث، عدل غير ظالم، عالم لا يخفى عليه شيء، شاء لم يزل يشاء أن يثبتهم ويعاقبهم على أفعال تكون كسبا لهم.
وهو عادل في عباده: إن الله لا يظلم الناس شيئا [سورة يونس:44]. وقال عز من قائل: وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم [سورة هود:101] مع ما أنه لم يزل مالكا لهم، وقادرا عليهم، ومتصرفا فيهم، لا غناء لهم عنه، ولا محيص لهم منه، فخلقهم عز وجل على الفطرة كما أخبر، وخلق الأعمال كما ذكرنا، ولم يضطر أحدا إلى شيء من ذلك، ولو خلقهم كفارا صبغة لما قال لهم: كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم [سورة البقرة:28]، إذ لا يليق بالحكيم أن يخلق صبغة ويغير نفس ما خلق من غير كسب.
وقال سبحانه: أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين [سورة فصلت:9]، ولو خلقه كافرا لما صح منه الإيمان، وكان معذورا مدليا بحجته، والله تعالى يقول: لا تبديل لخلق الله [سورة الروم:30]، وكان ذلك تكليف ما لا يطاق، كما أن يصرف الأسود فيقال له أبيض، والأبيض أسود، وذلك مستحيل من حكيم.
وأما قوله سبحانه: هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [سورة التغابن:2] [ ص: 496 ] ، يعني: أنه خلق الكل وقد اعترفوا به بذلك، فمنهم من شكر خالقه واعترف له بالنعم، وبالإخراج من العدم إلى الوجود، فحقق فعله، وقبل من رسله، ووحد ربه. ومنهم من كفر ولم يشكر خالقه، وأشرك به ما لا يجوز له، وكذب برسله، فصار كافرا بفعله.
وقد روي نحو من هذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: . « كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا»
وقد قال تعالى: فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون [سورة البقرة:152]، فلما امتثل ذلك قوم، وعدل عنه آخرون، كانوا هم المرادين من قوله: فمنكم كافر ومنكم مؤمن [سورة التغابن:2] .
وقد قال سبحانه في حال المؤمنين ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان [سورة الحجرات:7]، فأخبر أنه فعل ذلك بهم بعد ما خلقهم، ولم يقل: خلقكم مؤمنين: وكره إليكم الكفر، فدل على أنه لم يفعل بالكافر ما فعل بالمؤمن، وذلك أبلغ دليل على أنهم لم يخلقوا صبغة: كافرين ولا مؤمنين) . [ ص: 497 ]
إلى أن قال: (وقد رأينا من كان على الكفر برهة ثم آمن، ومن كان مؤمنا ثم كفر. ولو كان ذلك صبغة لما انتقلوا، ولما كان من الكسب صح عليه النقلة والتحويل، وقد قال تعالى: كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم [سورة آل عمران:86]، فأضافه إليهم حقيقة.
وقال: ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا [سورة المنافقون:3]، فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا [سورة يونس:98]، ألا ترى أنهم لما لم يخلقوا صبغة كفارا نفعهم إيمانهم؟. ولما قال فرعون (آمنت) لم ينفعه.