قلت: بيان هذا أنه إذا قيل: صنعة، أو فعل، كان هذا اللفظ متضمنا صانعا فاعلا، كما إذا قيل: فاعل صانع، كان ذلك متضمنا فعلا وصنعة. وذلك لأن المصدر يستلزم الفاعل، كما يستلزم الفاعل المصدر، فكما أن العقل يعلم امتناع فاعل لا فعل له، فهو يعلم امتناع فعل لا فاعل له.
قرر هذا الوجه أيضا بناء على أن العلم بافتقار المحدث إلى محدث ليس بضروري، وزعم أن والقاضي أبو بكر يقول بذلك، كما تقدم من قوله: (إنا لا ندعي - ولا صاحب الكتاب - أن الأشعري شيء يدرك من جهة الضرورات) . العلم باستحالة وقوع الصنعة لا من صانع،
ومن المعلوم أن كلام ليس فيه شيء من هذا، ولم يذكر في كلامه أن العلم بافتقار الصنعة إلى صانع يقرر بأن استلزام الصنعة للصانع كاستلزام الصانع للصنعة، ولا بأن ذلك يتضمن تقديما وتأخيرا، فيفتقر إلى مقدم ومؤخر. [ ص: 84 ] الأشعري
ثم إن القاضي قرر ذلك بأن ذلك التقدم والتأخر لا يجوز أن يكون لعلة تقوم بالمتقدم والمتأخر، لأنه ليس وجود العلة به بأولى من وجودها بغيره، إذا لم يكن هناك موجد. وكذلك وجود سائر العلل المجانسة لها لسائر ما يحتمله ذلك الجنس الذي وجدت به العلة، ولأن ذلك يتضمن تقدم علة على علة، فتفتقر أيضا إلى علة متقدمة، وذلك يفضي إلى وجود حوادث لا نهاية لها، وهو محال.
وهذه المقدمة فيها نزاع مشهور، لكنه احتج بها على من يسلمها من المعتزلة، ولأنه عند نفسه قد أقام الدليل عليها في موضع آخر.