[ ص: 3 ] فصل
ونحن ننبه على دلالة السمع على أفعال الله تعالى الذي به تنقطع الفلاسفة الدهرية، ويتبين به مطابقة العقل للشرع.
ولا ريب أن دلالة ظاهر السمع ليس فيها نزاع، لكن الذين يخالفون دلالته يدعون أنها دلالة ظاهرة لا قاطعة، والدلالة العقلية القاطعة خالفتها، فأصل الدلالة متفق عليه، فنقول:
معلوم بالسمع اتصاف الله تعالى بالأفعال الاختيارية القائمة به، كالاستواء إلى السماء، والاستواء على العرش، والقبض، والطي، والإتيان، والمجيء، والنزول، ونحو ذلك. بل والخلق، والإحياء، والإماتة، فإن الله تعالى وصف نفسه بالأفعال اللازمة كالاستواء، وبالأفعال المتعدية كالخلق، والفعل المتعدي مستلزم للفعل اللازم، فإن الفعل لا بد له من فاعل، سواء كان متعديا إلى مفعول أو لم يكن.
والفاعل لا بد له من فعل، سواء كان فعله مقتصرا عليه أو متعديا إلى [ ص: 4 ] غيره. والفعل المتعدي إلى غيره لا يتعدى حتى يقوم بفاعله، إذ كان لا بد له من الفاعل. وهذا معلوم سمعا وعقلا.
أما السمع فإن أهل اللغة العربية التي نزل بها القرآن، بل وغيرها من اللغات، متفقون على أن الإنسان إذا قال: "قام فلان وقعد" وقال: "أكل فلان الطعام وشرب الشراب" فإنه لا بد أن يكون في الفعل المتعدي إلى المفعول به ما في الفعل اللازم وزيادة، إذ كلتا الجملتين فعلية، وكلاهما فيه فعل وفاعل، والثانية امتازت بزيادة المفعول، فكما أنه في الفعل اللازم معنا فعل وفاعل ففي الجملة المتعدية معنا أيضا فعل وفاعل وزيادة مفعول به.
ولو قال قائل: الجملة الثانية ليس فيها فعل قائم بالفاعل، كما في الجملة الأولى، بل الفعل الذي هو "أكل" و "شرب" نصب المفعول - من غير تعلق بالفاعل أولا - لكان كلامه معلوم الفساد، بل يقال: هذا الفعل تعلق بالفاعل أولا، كتعلق "قام وقعد"، ثم تعدى إلى المفعول، ففيه ما في الفعل اللازم وزيادة التعدي، وهذا واضح لا يتنازع فيه اثنان من أهل اللسان. [ ص: 5 ]
فقوله تعالى: هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش [ سورة الحديد: 4] تضمن فعلين: أولهما متعد إلى المفعول به، والثاني مقتصر لا يتعدى، فإذا كان الثاني - وهو قوله تعالى: ثم استوى - فعلا متعلقا بالفاعل، فقوله "خلق" كذلك بلا نزاع بين أهل العربية.
ولو قال قائل: "خلق" لم يتعلق بالفاعل، بل نصب المفعول به ابتداء، لكان جاهلا، بل في "خلق" ضمير يعود إلى الفاعل كما في "استوى".