ومن أعجب خذلان المخالفين للسنة وتضعيفهم للحجة إذا نصر بها حق ، وتقويتها إذا نصر بها باطل : أن قد أبطلها لما استدلوا بها على أن الإله واحد ، والمدلول حق لا ريب فيه ، وإن قدر ضعف الحجة ، ثم إنه يحتج بها بعينها على نفي لوازم علو الله على خلقه ، بل ما يستلزم تعطيل ذاته فيجعلها حجة فيما يستلزم التعطيل ، ويبطلها إذا احتج بها على التوحيد . حجة الفلاسفة على التوحيد
وأيضا فما ذكره في إبطال هذه الحجة يبطل الوجه الأول أيضا ، فإنه إذا لم يمتنع واجبان بأنفسهما ، فأن لا يمتنع جزآن كل منهما واجب بنفسه بطريق الأولى والأحرى .
واعلم أن الوجهين اللذين أبطلا بهما الحجة : أحدهما منع كون الوجوب أمرا ثبوتيا ، والثاني المعارضة : أما المعارضة ، فواردة على هؤلاء الفلاسفة ، لا مندوحة لهم عنها . ومعارضة الشهرستاني والرازي -وأظن [ ص: 253 ] أجود من معارضة الغزالي- ومن اعتذر عن ذلك بأن الواجب لفظ مشترك لزم بطلان توحيد الفلاسفة بطريق الأولى ، فإنه لا محذور حينئذ في إثبات أمور متعددة كل منها يقال له واجب الوجود بمعنى غير ما يقال للآخر . الآمدي،
فبكل حال يلزم : إما لزوم التركيب ، وإما بطلان توحيدهم وأيهما كان لازما لزم الآخر، فإنه إذا لزم التركيب بطل توحيدهم ، وإذا بطل توحيدهم أمكن تعدد الواجب ، وهذا يبطل امتناع التركيب .
ولا ريب أن أصل كلامهم ، بل وكلام نفاة العلو والصفات ، مبني على إبطال التركيب وإثبات بسيط كلي مطلق مثل الكليات ، وهذا الذي يثبتونه لا يوجد إلا في الأذهان ، والذي أبطلوه هو لازم لكل الأعيان ، فأثبتوا ممتنع الوجود في الخارج ، وأبطلوا واجب الوجود في الخارج .
ونحن نبين بطلان ذلك بغير ما ذكره هؤلاء : فنقول : قول القائل:"إما أن يقال باتفاقهما من كل وجه،أو اختلافهما من كل وجه، أو اتفاقهما من وجه دون وجه". إن أريد به أنهما يتفقان في شيء بعينه موجود في الخارج ، ولكن يشتبهان من بعض الوجوه ، مع أن كلا منهما مختص بما قام به نفسه، كالبياضين أو الأبيضين المشتبهين ، مع أنه [ ص: 254 ] ليس في أحدهما شيء مما في الآخر ، وإن أراد بقوله :"أو اختلافهما من كل وجه" أنهما لا يشتبهان في شيء ما ، ولا يشتركان في شيء ما ، فليس في الوجود شيئان إلا بينهما اشتراك في شيء وتشابه في شيء ما ، ولو أنه مسمى الوجود، وإن أراد امتياز أحدهما عن الآخر فكل منهما ممتاز عن الآخر من [كل] وجه ، وإن كانا مشتركين في أشياء، بمعنى اشتباههما لا بمعنى أن في الخارج شيئا بعينه اشتركا فيه كما يشترك الشركاء في العقار .
وإذا عرف أن هذه الألفاظ مجملة فنقول: هما مشتبهان مشتركان في وجوب الوجود ، كما أن كل متفقين في اسم متواطئ بالمعنى العام ، سواء كان متماثلا وهو التواطؤ الخاص ، أو مشككا وهو المقابل للتواطؤ الخاص ، كالموجودين، والحيوانين ، والإنسانين، والسوادين، اشتركا في مسمى اللفظ الشامل لهما مع أن كلا منهما متميز في الخارج عن الآخر من كل وجه، فهما لم يشتركا في أمر يختص بأحدهما ، بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه ، وإنما اشتركا في مطلق الوجود . [ ص: 255 ]
والوجود المطلق المشترك الكلي لا يكون كليا لا في هذا ، ولا في هذا ، بل هو كلي في الأذهان ، مختص في الأعيان . وإذا قيل :"الكلي الطبيعي موجود" فمعناه أن ما كان كليا في الذهن يوجد في الخارج ، لكن لا يتصور إذا وجد أن يكون كليا ، كما يقال العام موجود في الخارج ، وهو لا يوجد عاما .
وقوله : "إما أن يختلفا من كل وجه أو يتفقا من كل وجه" .
قلنا : إذا أريد بالاختلاف ضد الاشتباه ، فقد يقال : ليسا مختلفين من كل وجه . وإن أريد الامتياز فهما مختلفان من كل وجه .
وقوله : "إذا كانا متفقين من كل وجه زال الامتياز" يصح إذا أريد بالاختلاف ضد الامتياز ، فإنهما إذا لم يتميز أحدهما عن الآخر بوجه بطل الامتياز، وأما إذا أريد بالاتفاق التشابه والتماثل فقد يكونان متماثلين من كل وجه كتماثل أجزاء الماء الواحد .
والتماثل لا يوجب أن يكون أحد المثلين هو الآخر ، بل لا بد أن يكون غيره . [ ص: 256 ]
وحينئذ فقوله : "ما به الاشتراك غير ما به الامتياز" .
قلنا : لم يشتركا في شيء خارجي حتى يحوجهما اشتراكهما فيه إلى الامتياز ، بل هما ممتازان بأنفسهما ، وإنما تشابها أو تماثلا في شيء ، والمتماثلان لا يحوجهما التماثل إلى مميز بين عينيهما ، بل كل منهما ممتاز عن الآخر بنفسه .
وقوله : "ما به الاشتراك : إما وجوب الوجود ، أو غيره" .
قلنا : كل منهما مختص بوجوب وجوده الذي يخصه ، كما هو مختص بسائر صفاته التي تخص نفسه ، وهو أيضا مشابه الآخر في وجوب الوجود ، فما اشتركا فيه من الكلي لا يقبل الاختصاص ، وما اختص به كل منهما عن الآخر لا يقبل الاشتراك ، فضلا عن أن يكون ما اشتركا فيه محتاجا إلى مخصص ، وما اختص به كل منهما يقاربه فيه مشترك . وحينئذ فالاشتراك في وجوب الوجود المشترك ، والامتياز بوجوب الوجود المختص ، والاشتراك أيضا في كل مشترك ، والامتياز بكل مختص .