وأما قوله: «هل يكفي في ذلك ما يصل إليه المجتهد من غلبة الظن أو لا بد من الوصول إلى القطع؟» .
فيقال: الصواب في ذلك التفصيل؛ فإنه وإن كان ولا يجوز الاستدلال فيها بغير دليل يفيد اليقين، وقد يوجبون القطع فيها كلها على كل أحد، فهذا الذي قالوه على إطلاقه وعمومه: خطأ مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، ثم هم مع ذلك من أبعد الناس عما أوجبوه فإنهم كثيرا ما يحتجون فيها بالأدلة التي يزعمونها قطعيات وتكون في الحقيقة من الأغلوطات فضلا عن أن تكون من الظنيات؛ حتى إن الشخص الواحد منهم كثيرا ما يقطع بصحة حجة في موضع، ويقطع ببطلانها في موضع [ ص: 53 ] آخر، بل منهم من عامة كلامه كذلك، وحتى قد يدعي كل من المتناظرين العلم الضروري بنقيض ما ادعاه الآخر. طوائف من أهل الكلام يزعمون أن المسائل الخبرية التي قد يسمونها مسائل الأصول يجب القطع فيها جميعها،
وأما التفصيل فما أوجب الله فيه العلم واليقين وجب فيه ما أوجبه الله من ذلك كقوله: اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم [المائدة: 98] ، وقوله فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك [محمد: 19] ، وكذلك يجب الإيمان بما أوجب الله الإيمان به، وقد تقرر في الشريعة أن الوجوب معلق باستطاعة العبد، كقوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم [التغابن: 16] ، وقوله عليه السلام: أخرجاه في الصحيحين. «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
فإذا كان كثير مما تنازعت فيه الأمة - من هذه المسائل الدقيقة - قد يكون عند كثير من الناس مشتبها لا يقدر فيه على دليل يفيد اليقين لا شرعي ولا غيره: لم يجب على مثل هذا في ذلك ما لا يقدر عليه، وليس عليه أن يترك ما يقدر عليه من اعتقاد قول غالب على ظنه لعجزه عن تمام اليقين، بل ذلك هو الذي يقدر عليه، لا سيما إذا كان مطابقا للحق، فالاعتقاد المطابق للحق ينفع صاحبه ويثاب عليه ويسقط به الفرض إذا لم يقدر على أكثر منه.