قال (فأما الكلام الموافق للكتاب والسنة، الموضح لحقائق الأصول عند الفتنة فهو محمود عند العلماء) . ابن عساكر:
وروي عن (سمعت ابن خزيمة: الربيع يقول: لما كلم الشافعي حفصا الفرد، فقال حفص: القرآن مخلوق، قال له كفرت بالله العظيم) . الشافعي:
وعن الربيع: (قال: حضرت - أو حدثني الشافعي أبو شعيب - ألا [إني] أعلم أنه حضر عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو بن يزيد وحفص الفرد، وكان يسميه المنفرد، فسأل الشافعي حفص عبد الله بن عبد الحكم، فقال: ما تقول [ ص: 249 ] في القرآن؟ فأبى أن يجيبه، فسأل يوسف بن عمرو فلم يجبه، فكلاهما أشار إلى فسأل الشافعي، واحتج عليه، فطالت فيه المناظرة، فقال الشافعي بالحجة عليه بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وكفر الشافعي حفصا الفرد. قال الربيع: فلقيت حفصا في المسجد بعد، فقال: أراد قتلي) . الشافعي
وروي عن (قال: ما ناظرت أحدا أحببت أن يخطئ إلا صاحب بدعة، فإني أحب أن ينكشف أمره للناس) . الشافعي:
(قال إنما أراد البيهقي بهذا الكلام الشافعي حفصا الفرد وأمثاله من أهل البدع، وهكذا مراده بكل ما حكي عنه من غير أن بعض الرواة أطلقه، وبعضهم قيده) . [ ص: 250 ] ذم الكلام [وذم أهله]،
(وروى عن البيهقي أبي الوليد بن الجارود قال: دخل حفص الفرد على فقال لنا: لأن يلقى الله العبد بذنوب مثل الشافعي، جبال تهامة، خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل وأصحابه، وكان يقول بخلق القرآن).
قلت: حفص الفرد كما هو معروف عند أهل العلم بمقالات الناس بإثبات القدر، فهو من وأصل حجتهم في ذلك هو دليل الأعراض المتقدم، فإن القرآن كلام، والكلام عندهم كسائر الصفات والأفعال، لا يقوم إلا بجسم، والجسم محدث، فكان إنكار نفاة الصفات القائلين بأن الله [تعالى] لا تقوم به صفة ولا كلام ولا فعل. عليه لأجل الكلام الذي دعاهم إلى هذا، لم تكن مناظرته له في القدر، ومن ظن أن الشافعي ناظره في القدر فقد أخطأ خطأ بينا، فإن الناس كلهم إنما نقلوا مناظرته له في القرآن: هل هو مخلوق أم لا؟. الشافعي
وأهل المقالات متفقون على أن حفصا لم يكن من نفاة القدر بل من [ ص: 251 ] مثبتيه. وقد ظن وغيره أنه إنما البيهقي فقال: (وإنما ذم ذم مذهب القدرية مذهب القدرية ألا تراه قال: بشيء من هذه الأهواء، واستحب ترك الجدال فيه وكأنه سمع ما رويناه عن الشافعي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: عمر [ابن الخطاب] - الحديث، أو غير ذلك من الأخبار الواردة في معناه، وعلى مثل ذلك جرى أئمتنا في قديم الدهر عند الاستغناء عن الكلام فيه، فإذا احتاجوا إليه أجابوا بما في كتاب الله، ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدلالة على لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم وأنه لا يجري في ملكوت السماوات والأرض شيء إلا بحكم الله وبقدرته وإرادته، وكذلك [في] سائر مسائل [ ص: 252 ] الكلام اكتفوا بما فيها من الدلالة على صحة قولهم، حتى حدثت طائفة سموا ما في كتاب الله من الحجة عليهم متشابها، وقالوا: نترك القول بالأخبار أصلا، وزعموا أن الأخبار التي حملت عليهم لا تصح في عقولهم، فقال جماعة من أئمتنا بهذا العلم، وبينوا لمن وفق للصواب ورزق الفهم أن جميع ما ورد في تلك الأخبار صحيح في المعقول، وما ادعوه في الكتاب من التشابه باطل في المعقول، وحين أظهروا بدعهم وذكروا ما اغتر به أهل الضعف من شبههم، أجابوهم فكشفوا عنها بما هو حجة عندهم، كما فعل إثبات القدر لله تعالى، فيما حكينا عنه، لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما في ترك إنكار المنكر والسكوت عنه من الفساد والتعدي وكانوا في القديم إنما يعرفون بالكلام أهل الأهواء، فأما أهل السنة والجماعة فمعولهم فيما يعتقدون الكتاب والسنة، وكانوا لا يتسمون بتسميتهم) . الشافعي
قال: (وإنما يعني - والله أعلم - بقوله: من ارتدى بالكلام لم يفلح، كلام أهل الأهواء الذين تركوا الكتاب والسنة، وجعلوا معولهم [ ص: 253 ] عقولهم، وأخذوا في تسوية الكتاب عليها، وحين حملت عليهم السنة بزيادة بيان لنقض أقاويلهم اتهموا رواتها وأعرضوا عنها) .
قال: (فأما أهل السنة فمذهبهم في الأصول مبني على الكتاب والسنة، وإنما أخذ من أخذ منهم في العقل إبطالا لمذهب من زعم أنه غير مستقيم في العقل) .
إلى أن قال (وفي كل هذا دلالة أن البيهقي: فأما الكلام الذي يوافق الكتاب والسنة، ويبين بالعقل والعبرة، فإنه محمود مرغوب فيه عند الحاجة، تكلم فيه الكلام المذموم إنما هو كلام أهل البدع الذي يخالف الكتاب والسنة، وغيره من أئمتنا رضي الله عنهم) . الشافعي
قال: (وكان عبد الله بن يزيد بن هرمز شيخ مالك بن أنس أستاذ بصيرا بالكلام والرد على أهل الأهواء) . الشافعي
وروي من تاريخ يعقوب بن سفيان، عن (قال: [ ص: 254 ] قال ابن وهب: كان مالك: ابن هرمز رجلا كنت أحب أن أقتدي به، وكان قليل الكلام قليل الفتيا، شديد التحفظ وكان كثيرا ما يفتي الرجل ثم يبعث في إثره فيرده إليه يغير ما أفتاه
قال: وكان بصيرا بالكلام، وكان يرد على أهل الأهواء، وكان من أعلم الناس بما اختلفت فيه الناس من هذه الأهواء.
وروى من طريق ابن عساكر عن البيهقي سمعت الحاكم: أبا بكر بن عبد الله يوسف الحفيد ـ من أصل كتابه ـ سمعت الحسين بن الفضل البجلي يقول: دخلت على زهير بن حرب بعد ما قدم من عند المأمون وقد امتحنه، فأجاب إلى ما سأله، وكان أول ما قال لي يا أبا علي تكتب عن المرتدين؟ فقلت: معاذ الله، ما أنت بمرتد. وقد قال الله تعالى: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [سورة النحل: 106]، فوضع الله عن المكره ما يسمعه في القرآن، ثم سألته عن أشياء يطول ذكرها، فقال: أشدها [ ص: 255 ] علينا: أن قال لنا: ما تقولون في عيسى صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: من عيسى يا أمير المؤمنين؟ قال: عيسى بن مريم. قلنا: رسول الله، قال: وكلمته؟ قلنا: نعم. قال: فما تقولون فيمن قال: ليس عيسى كلمة الله؟ قلنا: كافر يا أمير المؤمنين. قال: فقال لنا: أليس عيسى كلمة الله؟ قلنا: بلى. قال: أفمخلوق أم غير مخلوق؟ قلنا: مخلوق. قال فمن زعم أنه غير مخلوق؟ قلنا: كافر يا أمير المؤمنين. قال: فما تقولون في القرآن؟ قلنا: كلام الله عز وجل. قال: مخلوق أو غير مخلوق؟ قلنا: غير مخلوق. قال: فمن زعم أنه مخلوق؟ قلنا: كافر. قال فمن زعم؟ أن عيسى غير مخلوق. وهو كلمة الله؟ قلنا: كافر قال: يا سبحان الله: عيسى كلمة الله، ومن نفى الخلق عنه كافر! والقرآن كلمة الله، ومن يثبت الخلق عليه كافر! قال الحسين: فأعلمته ما يجب من القول، وقلت له: قد كان المكي يختلف إليكم ويقول لكم: إني أعلم من هذا الباب مالا تعلمون. فتعلموا ذلك مني، فتحملكم الرياسة على ترك ذلك. ويقول لكم: يكون لكم ما تعلمتموه مني عدة تعتدونها لأعدائكم، فإن هجموا لم تحتاجوا إلى طلب العدة، وإن لم يحضركم الأعداء لم يضركم الإعداد للعدة، [ ص: 256 ] فتأبون ذلك. والحجة في هذا الباب كيت وكيت.
فقال: والله وددت أني كنت أعلم هذا كما تعلمه يوم دخلت على وأن ثلث روايتي ساقطة عني. ثم نظر إلى المأمون، وهو معه، فقال له: وأنا أقول كما تقول. فقال لي يحيى بن معين زهير: فعلم ابني فإنه حدث. فخلوت به في المسجد فعلمته ذلك، ثم انصرفت.
قال الحاكم: الحسين بن الفضل البجلي، صاحب عبد العزيز المكي المقدم في معرفة الكلام. هـ) .
قلت: هذه الحكاية وقع فيها تغيير، إن كان أصلها صحيحا، فإن زهير بن حرب ونحوهما، ممن امتحن في زمن المحنة، لم يجتمعوا ويحيى بن معين ولا ناظرهم، بل ذهب إلى الثغر بالمأمون، بطرسوس، وكتب إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب أن يمتحن الناس، فامتنعوا من الإجابة، فكتب إليه كتابا ثانيا يغلظ فيه، ويأمر بقتل القاضيين: بشر بن الوليد، وعبد الرحمن بن إسحاق إن لم يجيبا، ويأمر بتقييد من لم يجب من العلماء، فامتنع من الإجابة سبعة، منهم: [ ص: 257 ] زهير بن حرب، وبقي أحمد بن حنبل لم يجيبا، فحملا إليه مقيدين، فمات ومحمد بن نوح في الطريق، ومات محمد بن نوح قبل وصول المأمون إليه. أحمد بن حنبل
وهذا كله معلوم عن أهل العلم بذلك، لم يختلفوا في ذلك، فإن كانت قد جرت مناظرة مع زهير بن حرب، فلعل ذلك كان من غير ولعل ذلك كان بين يدي نائبه المأمون، إسحاق بن إبراهيم، فإنه هو الذي باشرهم بالمحنة، وإنما الذي ناظر الجهمية في المحنة هو وكان ذلك في خلافة أحمد بن حنبل، المعتصم، بعد أن بقي في الحبس أكثر من سنتين، وجمعوا له أهل الكلام من البصرة وغيرها: من الجهمية والمعتزلة والنجارية: مثل أبي عيسى محمد بن عيسى برغوث، صاحب حسين النجار، وناظرهم ثلاثة أيام، وقطعهم في تلك المناظرات، كما قد شرحنا تلك المناظرات في غير هذا الموضع.
وهذه الحجة التي ذكرت في حكاية زهير بن حرب، ذكرها وتكلم عليها فيما كتبه في الرد على الإمام أحمد الجهمية، وهو في الحبس، قبل اجتماعه بهم للمناظرة، فكان الجواب عن هذه مما هو بعد عند الأئمة، كـ وأمثاله. أحمد بن حنبل