فلا بأس واقبل إن يرجع وينشد ( ف ) على المذهب ( من يستتر ) . من الرجال والنساء ( في بيته ) أو غير بيته لأجل ( سماعه ) أي المستتر ( الغناء ) بكسر الغين ممدودا ( ولم يكثر ) من ذلك ولم يتزيد منه ( و ) لم يقترن بآلة لهو ولم يكن المغني امرأة أجنبية لحرمة التلذذ بصوتها بل ( غنى ) غناء ( يسيرا ) غير كثير ، فإن أكثر منه ردت شهادته كما مر ، لأنه سفه ودناءة يسقط المروءة كما في الإنصاف .
وأما إن غنى يسيرا ( في ) حال ( خفاء لنفسه ) قلت أو لغيره ولم يتخذه صناعة ولم يداومه على ما مر ( فلا بأس ) أي لا حرج ولا حرمة في ذلك لأنه كلام موزون بنغمة طيبة فلا تظهر الحرمة وقد روي عن قرة بن خالد بن عبد الله بن يحيى قال قال رضي الله عنه عمر للنابغة الجعدي : أسمعني بعض ما عفا الله لك عنه من هنيهاتك ، فأسمعه كلمة له يعني قصيدة فقال له وإنك لقائلها ؟ قال نعم ، قال رضي الله عنه : لطال ما غنيت بها خلف جمال الخطاب وعن عمر عبد الله بن عوف قال : أتيت باب رضي الله عنه فسمعته يغني بالركبانية : عمر
فكيف ثوائي بالمدينة بينما
قضى وطرا منها جميل بن معمر
وهل استحسان الشعر إلا لكونه موزونا متناسبا ممدود الصوت والدندنة ، وإلا لما كان فرق بين المنظوم والمنثور . وقد سمع رضي الله عنهما الغناء وكان يعجبه . فهذا خلاصة ما استقر عليه المذهب ، والله تعالى أعلم [ ص: 160 ] عبد الله بن جعفر
( تنبيهات ) :
( الأول ) : جزم الإمام المحقق ابن القيم في إغاثة اللهفان بحرمة الغناء ، وقال إنه من مكائد الشيطان ومصائده التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين ، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين ، وقال إنه المكاء والتصدية .
ومراده والله أعلم بهذه العبارة حيث اقترن بآلة لهو محرمة ، بدليل قوله : من مكائد الشيطان الغناء بالآلات المحرمة التي تصد القلوب عن القرآن ، وتجعلها عاكفة على الفسق والعصيان ، فهو قرآن الشيطان ، والحجاب الكثيف عن الرحمن ، وهو رقية اللواط والزنا .
وبه ينال العاشق الفاسق غاية المنى ، فلو رأيتهم عند ذياك السماع وقد خشعت منهم الأصوات ، وهدأت منهم الحركات ، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه ، وانصبت انصبابة واحدة إليه ، لرأيت أمرا تقشعر منه الجلود ، ويتعدى الشرائع والحدود . فلغير الله بل للشيطان قلوب هناك تمزق ، وأثواب تشقق ، وأموال في غير طاعة الله تنفق ، حتى إذا عمل السكر فيهم عمله ، وبلغ الشيطان منهم أمله ، واستفزهم بصوته وحيله ، وأجلب عليهم بخيله ورجله ، وخز في صدورهم وخزا . وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا .
فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار ، وتارة كالذباب يرقص وسط الدار .
فيا شماتة أعداء الإسلام بالذين يزعمون أنهم خواص الأنام ، قضوا حياتهم لذة وطربا ، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا . مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن . فلو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكنا ، ولا أزعج له ظاهرا ولا باطنا ، ولا أثار فيهم وجدا ، ولا قدح فيهم من لواعج الشوق إلى الله زندا ، حتى إذا تلي عليهم قرآن الشيطان ، وولج مزموره أسماعهم ، فجرت ينابيع الوجد من قلوبهم على أعينهم فجرت ، وعلى أقدامهم فرقصت ، وعلى أيديهم فصفقت ، وعلى بقية أعضائهم فاهتزت وطربت ، وعلى أنفاسهم فتصاعدت ، وعلى زفراتهم فتزايدت .
فيا أيها الفاتن المفتون ، البائع حظه من الله بصفقة خاسر مغبون ، هلا كان هذا الامتحان ، عند سماع القرآن ، وهذه الأذواق والمواجيد ، عند قراءة القرآن المجيد ، ولكن كل امرئ يصبو إلى ما يناسبه ، ويميل إلى ما يشاكله ويقاربه ، والجنسية علة الضم قدرا وشرعا ، والشكل سبب الميل عقلا وطبعا .
[ ص: 161 ] فمن أين هذا الإخاء والنسب ، لولا العلق من الشيطان بأقوى سبب ؟ ومن أين هذه المصالحة التي أوقعت في عقد الإيمان وعهد الرحمن خللا { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا } ولقد أحسن القائل في قوله :
تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا والله ما رقصوا لأجل الله
دف ومزمار ونغمة شادن فمتى رأيت عبادة بملاهي
ثقل الكتاب عليهمو لما رأوا تقييده بأوامر ونواهي
سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى زجرا وتخويفا بفعل مباهي
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن شهواتها يا ويحها المتناهي
وأتى السماع موافقا أغراضها فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه
أين المساعد للهوى من قاطع أسبابه عند الجهول الساهي
إن لم يكن خمر الجسوم فإنه خمر العقول مماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه وانظر إلى النسوان عند ملاهي
وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي
واحكم بأي الخمرتين أحق بالتحريم والتأثيم عند الله
وقال آخر :
برئنا إلى الله من معشر بهم مرض من سماع الغنا
فكم قلت يا قوم أنتم على شفا جرف ما به من بنا
شفا جرف تحته هوة إلى درك كم به من عنا
وتكرار ذا النصح منا لهم لنعذر فيهم إلى ربنا
فلما استهانوا بتنبيهنا رجعنا إلى الله في أمرنا
فعشنا على سنة المصطفى وماتوا على تن تنا تن تنا
قال وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم في أقاصي الأرض ودانيها ، حتى تعلم هذه الطائفة أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها والله ولي التوفيق . ثم قال : .