مطلب : هل الأفضل الفقير الصابر أو الغني الشاكر ؟
( تنبيهات ) :
( الأول ) : اختلف العلماء رضي الله عنهم ؟ ذهب قوم إلى تفضيل الغني ; لأن الغنى مقدرة والفقر عجز والقدرة أفضل من العجز . قال من أفضل ؟ الفقير الصابر أو الغني الشاكر الماوردي : وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة . قلت وهو ظاهر اختيار الإمام الحافظ ابن الجوزي . قال في تبصرته : واعلم أن الغني إذا لم يشتغل بالغنى عن الله تعالى ، وكان ماله وقفا على مساعدة الفقراء وأعمال الخير كان أفضل من الفقير ، فإن غاية الفقير أن يكون متقيا لله تعالى ، فله ثواب صبره عن أغراضه ، ولا يتعدى فعله إلى النفع للغير ، ولكن لما كان الغالب في الغني أن يشتغل بماله عن الله تعالى ، ويمسكه عن الإنفاق ، وربما لم يتورع في كسبه ، وربما أطلق نفسه في شهواتها القاطعة عن الله تعالى فضل الفقير المحق عليه فإن همه أجمع .
وذهب آخرون إلى تفضيل الفقير ; لأنه تارك والغني ملابس ، وترك الدنيا أفضل من ملابستها . قال الماوردي : وهذا مذهب من غلب عليه حب [ ص: 545 ] السلامة . قلت : والسلامة لا يعادلها شيء . قال : لو لم يكن في الفقر إلا أنه باب الرضا عن الله ، ولو لم يكن في الغنى ألا أنه باب التسخط على الله ; لأن الإنسان إذا رأى الفقير رضي عن الله في تقديره ، وإذا رأى الغني سخط بما هو عليه ، لكان ذلك كافيا في فضل الفقير على الغني ، انتهى . الإمام الوزير بن هبيرة
وذهب آخرون إلى تفضيل المتوسط بين الأمرين بأن يخرج من حد الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين . قال الماوردي : وهذا مذهب من يرى تفضيل الاعتدال ، وأن خيار الأمور أوساطها ، انتهى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية روح الله روحه : الصواب في ذلك قوله تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة ، انتهى .
أقول : من تأمل السيرة النبوية وكون نبينا صلى الله عليه وسلم كان كثير الجوع ، بعيد الشبع ، يشد الحجر على بطنه ، وتوفي ودرعه مرهونة ، ورأى إعراضه عن الدنيا وزينتها والانهماك في لذاتها ، ونفض يديه من شهواتها ، وأن ذلك عن اختيار لا اضطرار ، علم وتحقق أن التقلل من الدنيا وزينتها أفضل وأكمل ، وأنا أتعجب من تفضيل الغني - وإن كان شاكرا - على الفقير الصابر ، وقد علمت أن الفقير يسلم من شدة الحساب . ويسبق الغني إلى الجنة بخمسمائة عام . وهل يختار الله لرسوله إلا أكمل الحالات . وهل يختار الرسول لنفسه إلا أفضل المقامات .