مطلب : ؟ هل يعاقب العبد إن سعى في حصول المعصية بما أمكنه ثم حال بينه وبينها القدر أم لا
وأما إن سعى في حصول المعصية بما أمكنه ثم حال بينه وبينها القدر فقد ذكر جماعة أنه يعاقب عليها حينئذ لقوله صلى الله عليه وسلم { } ومن سعى في حصول المعصية جهده ثم عجز عنها فقد عمل . إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل
وقوله صلى الله عليه وسلم { } . إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ، قالوا يا رسول الله : هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه
ودل الحديث الأول على أن أنه يعاقب على الهم ; لأنه قد عمل بجوارحه معصية وهو التكلم بلسانه . ويدل عليه حديث الذي قال : لو أن لي مالا لعملت فيه بما عمل فلان ، يعني الذي يعصي الله في ماله ، قال فهما في الوزر سواء . ومن المتأخرين من قال لا يعاقب على التكلم بما هم به ما لم تكن المعصية التي هم بها قولا محرما كالقذف والغيبة والكذب ، فأما ما كان متعلقها العمل بالجوارح فلا يأثم بمجرد التكلم بما هم به . الهام بالمعصية إذا تكلم بما هم به بلسانه
وقد يستدل لهذا بحديث { أبي هريرة } ولكن المراد بالحديث هنا حديث النفس جمعا بينه وبين قوله { وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفر له ما لم يعملها } وأما إن ما لم يتكلم به أو يعمل ؟ هذا على قسمين : انفسخت نية العاصي وفترت عزيمته من غير سبب منه فهل يعاقب على ما هم به من المعصية أم لا
أحدهما : أن يكون الهم بالمعصية خاطرا خطر ولم يساكنه صاحبه ولم يعقد قلبه عليه بل كرهه ونفر منه ، فهذا معفو عنه وهو كالوساوس الرديئة التي سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال " : { } ولما نزل قوله تعالى : { ذلك صريح الإيمان وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } شق [ ص: 573 ] ذلك على المسلمين وظنوا دخول هذه الخواطر فيه ، فنزلت الآية التي بعدها وفيها قوله { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } فبينت أن ما لا طاقة لهم به فهو غير مؤاخذ به ولا مكلف به .
القسم الثاني : للعزائم المصممة التي تقع في النفوس وتدوم ويساكنها صاحبها فهذا أيضا نوعان :
الأول : ما كان عملا مستقلا بنفسه من أعمال القلوب كالشك في الوحدانية أو النبوة أو البعث أو نحو ذلك من أصول الكفر والنفاق ، فهذا يعاقب عليه العبد ويصير به كافرا ومنافقا ، ويلتحق بهذا سائر المعاصي المتعلقة بالقلوب كمحبة ما يبغضه الله وبغض ما يحبه ، والكبر والعجب والحسد وسوء الظن بالمسلم من غير موجب ، على أنه روي عن سفيان أنه قال في سوء الظن إذا لم يترتب عليه قول أو فعل فهو معفو . وكذلك روي عن الحسن في الحسد .
قال : الحافظ ابن رجب : ولعل هذا محمول من قولهما على ما يجده الإنسان ولا يمكنه دفعه فهو يكرهه ويدفعه عن نفسه ولا يندفع ، لا على ما يساكنه ويستروح إليه ويعيد حديث نفسه به ويبديه .
والثاني : ما لم يكن من أعمال القلوب بل كان من أعمال الجوارح ، كالزنا والسرقة وشرب الخمر والقتل والقذف ونحو ذلك إذا أصر العبد على إرادة ذلك والعزم عليه ولم يظهر له أثر في الخارج أصلا ، فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران للعلماء : أحدهما يؤاخذ به . قال : سألت ابن المبارك أيؤاخذ العبد بالهمة ؟ فقال إذا كانت عزما أوخذ بها . سفيان الثوري
ورجح هذا القول كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم ، واستدلوا له بقوله تعالى : { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } وبقوله : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } وبقوله عليه الصلاة والسلام { } وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم { الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس } على الخطرات ، وقالوا ما ساكنه العبد وعقد قلبه عليه فهو من كسبه وعمله فلا يكون معفوا عنه . ومن هؤلاء من قال إنه يعاقب عليه في الدنيا بالهموم والغموم ، وروي ذلك عن إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل رضي الله عنها مرفوعا وموقوفا : [ ص: 574 ] قال الحافظ عائشة ابن رجب : وفي صحته نظر : وقيل بل يحاسب العبد به يوم القيامة يقفه الله عليه ثم يعفو عنه ولا يعاقبه به ، فيكون عقوبته المحاسبة ، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهم ، وهو اختيار والربيع بن أنس ابن جرير الطبري .
والقول الثاني : لا يؤاخذ بمجرد النية مطلقا ، ونسب ذلك إلى نص وهو قول الشافعي ابن حامد من أصحابنا عملا بالعمومات . انتهى ملخصا .
ومذهب القاضي أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن النفس عليها أثم في اعتقاده وعزمه ، وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين كما قال أبي بكر بن الطيب المازري وانتصر له القاضي عياض بأن مذهب عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب ، ولكن قالوا إن هذا العزم يكتب سيئة وليست السيئة التي هم بها لكونه لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله عز وجل والإنابة ، لكن نفس الإصرار والعزم معصية فتكتب معصية ، فإذا عملها كتبت معصية ثانية ، فإذا تركها خشية الله تعالى كتبت حسنة كما في الحديث { إنما تركها من جرائي } فصار تركه لها لخوف الله عز وجل ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة . وأما الهم الذي لا يكتب فالخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصاحبها عقد ولا نية ولا عزم .
وبهذا ظهر قولنا إن . وقيل لا تصح توبة غير ; عاص لأنه ليس بذي ذنب يتوب منه . التوبة واجبة على كل مكلف
وقال مولانا الشيخ قدس الله روحه في الغنية : التوبة فرض عين في حق كل شخص ، ولا يتصور أن يستغني عنها أحد من البشر ، لأنه إن خلا عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنب بالقلب ، وإن خلا عنها فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله عز وجل ، فإن خلا عنها فلا يخلو عن غفلة وقصور بالعلم بالله وبصفاته وأفعاله ، فلكل حال طاعات وذنوب وحدود وشروط ، فحفظها طاعة وتركها معصية والغفلة عنها ذنب ، فيحتاج إلى توبة وعزم الرجوع عن التعويج الذي وجد إلى سنن الطريق المستقيم الذي شرع له ، عبد القادر ، فتوبة العوام من الذنوب ، وتوبة الخواص من الغفلة ، وتوبة خاص الخاص من ركون القلب إلى ما سوى الله عز وجل كما قاله فالكل مفتقر إلى توبة ، وإنما [ ص: 575 ] يتفاوتون في المقادير وغيره . ذو النون المصري
قال ابن مفلح : وظاهر كلام بعض أصحابنا وغيرهم صحة التوبة من كل ما حصلت فيه المخالفة أو أدنى غفلة وإن لم يأثم . قال ولعل هذا القول أقوى وهو معنى ما اختاره الشيخ رحمه الله ورضي عنه وغيره ، ولعله معنى كلام : من لم يتب إذا أصبح وأمسى فهو من الظالمين ، والله أعلم . مجاهد
واعلم أن من لزمته التوبة من ترك التوبة تلك المدة ; لأنه قد ترك واجبا ، وترك الواجب مع القدرة إثم ، والله الموفق . ترك التوبة الواجبة مدة مع القدرة عليها والعمل بموجبها