وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا ضد ولا ند ، ولا وزير ولا مشير ولا أعوان ، بل هو الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، المنزه عن الصاحبة والولد ، فهو القادر المقتدر الحكيم الديان .
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، وأمينه على وحيه ، وشهيده على أمره ونهيه ، خلاصة الأكوان ، وسيد ولد عدنان ، الذي أكمل خلقه ، وعظم خلقه ، ووضع عنه وزره ، ورفع له ذكره ، وأدبه فأحسن تأديبه ، فكان خلقه القرآن ، وأيده بالوحي والتنزيل ، والفضل والتفضيل ، والبيان والتفصيل ، والحكمة والتأويل ، والحسن والإحسان .
اللهم صل وسلم وشرف وعظم وبجل وكرم ، وضاعف ذلك على هذا النبي الكريم ، المنعوت في الكتاب القديم ، بأعظم نعت وأتم تفخيم ، بقوله جل ثناؤه : { وإنك لعلى خلق عظيم } فيا لها من مزية ساد بها على [ ص: 10 ] الملائكة والإنس والجان ، وعلى آله وأصحابه ، وأنصاره وأحزابه ، وأصهاره وأحبابه ، المتخلقين بخلقه ، والمتأدبين بآدابه في السر والإعلان .
الذين بذلوا نفوسهم النفيسة في إظهار دينه القويم ، وجاهدوا بسمر القنا وبيض الظبا من حاد عن صراطه المستقيم ، ونشروا السنة والكتاب ، وأظهروا الفروض والآداب ، بأسلم قلب وأفصح لسان ، وعلى التابعين وتابعيهم ، والأئمة المجتهدين ومقلديهم ، ما نقلت أخبارهم ، ودونت آثارهم ، وكر الجديدان ، وتعاقب الملوان .
( أما بعد ) فقد كان سألني بعض الإخوان ، والأحبة والأخدان ، ممن له في العلم رغبة ، ولديه من خوف التقصير رهبة ، أن أشرح منظومة الآداب ، نظم الإمام العلامة الأوحد ، والقدوة الفهامة الأمجد ، سيبويه زمانه ، بل قس عصره وسحبان أوانه ، ومخجل الدر بنظمه والضحى ببيانه ، والبحر بفيض علمه والمزن بسيل بنانه ، الإمام القدوة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد القوي المرداوي ، الفقيه المحدث النحوي ، الحنبلي الأثري ، رضوان الله عليه ، شرحا يحل مبانيها ، ويظهر معانيها ، ويكشف وجوه مخدراتها ، ويوضح دلائل أبياتها ، ويكون لأبناء زماننا في معرفة الآداب كالإقناع والمنتهى في الفقه عند ذوي الألباب .
فتعللت بأن خاتمة المحققين الشيخ موسى الحجاوي قد شرحها ، وقبله أوحد المجتهدين القاضي علاء الدين المرداوي قد أوضحها ، فمن أنا حتى أتجرأ على شرح هذه الرسالة ، وأدخل بين البحر والنهر بهذه البلالة ، ومن لي باطلاع المرداوي وتحقيق الحجاوي ؟ وهل أنا حينئذ إلا كمن ذهب إلى جماعة فيهم ( بقراط ) و ( جالينوس ) وقال أنا الطبيب المداوي .
فقال السائل : أما شرح المرداوي فلا يكاد يوجد ، وأما شرح الحجاوي فقد اقتصر على الأحكام بأوجز عبارة وأزهد ، مع حذفه لأكثر أبيات المنظومة ، أو كثير منها مع الحاجة إليها وعدم الغنى عنها . ونحن نقترح عليك بسط العبارة في الأخبار ، وضبط الإشارة في الآثار ، ليكون من أحرز هذه الفوائد الغزيرة ، من الصحة والبيان ، والتعليل والدليل على بصيرة ، فمنيت الذي إلى بضاعتي المزجاة يرغب ، ووعدته بذلك والوعد عند الحر دين يطلب ، وقلت لا بد ، من إسعاف هذا السائل ، ولو بالتطفل على [ ص: 11 ] الكتب المدونة والرسائل ، ونقل الأخبار وجمع المسائل .
فإنا في هذا الزمان نقول كما نقل الناقل : " لم تدع الأوائل كلمة لقائل " والمظهر في زماننا الإمامة والعلم والبلاغة والفهم بالنسبة للصدر الأول ، مثل أن يحاجي سحبان باقل ، ثم أخذت في تحصيل المواد المعينة ، والكتب الصحيحة المتينة ، وبعد الوعد بمدة تزيد على ثلاث سنين ، شرعت في الشرح والتبيين .
هذا مع كوني في بلدة قفر أرجاؤها من ظلمة الجهل غبرا ، وعلماؤها من العلوم فقرا ، والفتن في ضواحيها تترى ، وعزت المواد في قطر تأليفها ، وفقد الخل المواد في مخاليفها . غير أن العبد ابتهل إلى الله ، ورمى نفسه بين يديه ، وطرق بابه ، وطلب منه المعونة على شيء سهل أسبابه .
فقد حصل لدينا من المادة التي لنيل المطلوب مساعدة عدة أسفار ، إذا قابلت ليل الجهل انقشع لما فيها من الأسرار والأنوار ، مثل الآداب الكبرى لابن مفلح ، ومختصرها لليونيني ، وشرح هذه المنظومة للحجاوي ، والإقناع والمنتهى وشروحهما وحواشيهما ، وفروع ابن مفلح وتصحيحه للمرداوي ، وحاشيته لابن قندس ، والإنصاف للمرداوي ، والتنقيح له ، وحاشيته للحجاوي ، وغاية المطلب للجراعي ، والشرح الكبير لابن أبي عمر المقدسي ، والمحرر للمجد ، وعدة من كتب فقه المذهب .
ومن كتب الآثار : سيرة ابن هشام ، وسيرة الحلبي ، وسيرة الشمس للشامي ، والمواهب اللدنية ، وتحبير الوفا لنا ، وزاد المعاد في هدي خير العباد للإمام المحقق ابن القيم ، وإغاثة اللهفان ، ومفتاح دار السعادة ، والروح ، وحادي الأرواح ، وشرح منازل السائرين ، والكلم الطيب والعمل الصالح ، وأعلام الموقعين ، والداء والدواء ، وروضة المحبين ، ونزهة المشتاقين ، والأحكام الشرعية ، وتحفة الودود ، وجلاء الأفهام ، وغير هذه المذكورات من كتبه .
ومن كتب ابن الجوزي : التبصرة ، والمنهل المورود ، ومنتخب المنتخب ، ومواسم العمر ، والموضوعات ، وصيد الخاطر ، وآداب النساء .
ومن كتب الحافظ ابن رجب : لطائف المعارف ، وشرح الأربعين النووية واختيار الأولى ، واستنشاق نسيم الأنس ، والذل والانكسار ، وغيرها من كتبه المفيدة وأجزائه العديدة .
[ ص: 12 ] ومن كتب ابن تيمية طيب الله ثراه : الفتاوى المصرية ، والرسالة الحموية والجواب الصحيح ، ورفع الملام عن أئمة الإسلام ، والوابل الصيب في الكلم الطيب ، والسياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ، وقواعد ورسائل له يكثر ذكرها .
ومن كتب التفسير : البغوي ، والثعلبي ، والبيضاوي ، والجلالين ، والواحدي وغيرها .
ومن كتب اللغة : القاموس ، وجمهرة ، ونهاية ابن دريد ، ومطالع الأنوار ، وغريب ابن الأثير ، وغريب لغة الإقناع ، والمطلع . أبي عبيد
ومن الكتب المختصة بالحديث : الترغيب والترهيب للحافظ ، وتنبيه الغافلين المنذري للسمرقندي ، والجامع الصغير للجلال السيوطي وشروحه ، والهيئة السنية في الهيئة السنية له ، والأوائل له ، وأوائل علي دده ، والتمييز لابن الديبع تلميذ السخاوي اختصره من المقاصد الحسنة فيما يدور من الأحاديث على الألسنة ، وتسهيل السبيل لغرس الدين ، وموضوعات علي القاري ، ومسند ، والصحيحين ، وبقية الصحاح والسنن ، وفضائل الأعمال الإمام أحمد للضياء المقدسي ، وغير ما ذكرنا فقد جمعته من أكثر من ثلثمائة كتاب التي نقلت منها . وبحسب مواد أصلها تزيد على الألوف والله الموفق .
وسميته ( غذاء الألباب ، لشرح منظومة الآداب ) وصدرته بمقدمة تشتمل على أمرين : ( الأمر الأول ) هذه القصيدة من بحر الطويل من الضرب الثاني ، وله عروض واحدة مقبوضة ، والقبض حذف خامس الجزء ، وأضربه ثلاثة :
( الأول ) صحيح وبيته :
أبا منذر كانت غرورا صحيفتي ولم أعطكم بالطوع مالي ولا عرضي
( الثاني ) مثلها وبيته :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
( والثالث ) : محذوف وبيته قول الشاعر :
أقيموا بني النعمان عنا صدوركم وإلا تقيموا صاغرين الرءوسا
ولنقطع البيت الأول من قصيدة الناظم رحمه الله تعالى ورضي عنه ليقاس عليه نظائره ( بحمد ) فعول دخله القبض وهو حذف خامس الجزء ساكنا كما هنا ( ك ذي الإكرا ) مفاعيلن ( م ما رم ) فعولن ( ت أبتدي ) مفاعلن بحذف خامسه ساكنا لأن عروضه لا تكون إلا كذلك ( كثيرا ) فعولن ( كما ترضى ) مفاعيلن ( بغير ) فعول بحذف ساكن السبب الخفيف وهو قبض لأنه خامس الجزء كما علمت ( تحدد ) مفاعلن ، والحرف المشدد بحرفين ، والعروض مؤنثة وهي آخر المصراع الأول ، والضرب مذكر وهو آخر المصراع الثاني .
وأما القافية فهي من آخر البيت إلى أول متحرك قبل ساكن بينهما وتكون بعض كلمة كما في قول امرئ القيس :
وقوفا بها صحبي علي مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتحمل
ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بل دمعي محملي
( الثاني في ذكر ترجمة الناظم ) رحمه الله ورضي عنه .
هو محمد بن عبد القوي بن بدران بن عبد الله المندسي المرداوي الفقيه المحدث النحوي شمس الدين أبو عبد الله ولد سنة ثلاثين وستمائة بمردا ، وسمع الحديث من خطيب مردا وعثمان بن خطيب القرافة ، وابن عبد الهادي ، وإبراهيم بن خليل وغيرهم . وطلب وقرأ بنفسه ، وتفقه على الشيخ الإمام شمس الدين ابن أبي عمر وغيره ، وبرع في العربية واللغة ، واشتغل ودرس وأفتى وصنف . وقال الذهبي : كان حسن الديانة ، دمث الأخلاق ، كثير الإفادة ، مطرحا للتكليف ، ولي تدريس الصالحية مدة ، وكان يحضر دار الحديث ويشتغل بها وبالجبل ، يعني صالحية دمشق . وله حكايات ونوادر ، وكان [ ص: 14 ] من محاسن الشيوخ .
قال الذهبي : وجلست عنده وسمعت كلامه ولي منه إجازة . قال الحافظ ابن رجب في الطبقات : درس بالمدرسة الصالحية بعد ابن الواسطي ، وتخرج به جماعة من الفضلاء ، وممن قرأ عليه العربية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية قدس الله روحه ، وله تصانيف منها في الفقه القصيدة الطويلة الدالية وكتاب مجمع البحرين لم يتمه ، وكتاب الفروق ، وعمل طبقات للأصحاب ، وحدث وروى عنه إسماعيل بن الخباز في مشيخته . قال : وتوفي ثاني عشر ربيع الأول سنة تسع وتسعين وستمائة ، ودفن بسفح قاسيون ، رحمه الله ورضي عنه آمين . قال الشيخ موسى بن أحمد بن موسى بن سالم الحجاوي صاحب الإقناع : ولما نظم ، يعني ابن عبد القوي القصيدة الطويلة في الفقه أتبعها بهذه القصيدة في الآداب اقتداء بطريقة جماعة من الأصحاب ، كابن أبي موسى ، والقاضي ، وابن حمدان في رعايته ، وصاحب المستوعب ، وغيرهم في إتباع الكتاب بخاتمة في الآداب ، فأتبع كتابه بهذه القصيدة . قلت : وممن سلك هذا الأسلوب من المتأخرين الإمام أبو بكر بن زيد الجراعي في كتابه غاية المطلب .
قال الإمام العلامة شيخ الإسلام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح في صدر آدابه الكبرى : وقد صنف في هذا المعنى يعني الآداب كثير من أصحابنا ، كأبي داود الإمام السجستاني صاحب السنن ، ، وأبي بكر الخلال وأبي بكر عبد العزيز ، وأبي حفص ، وأبي علي بن أبي موسى ، والقاضي أبي يعلى ، ، وغيرهم . وابن عقيل
قال : وصنف في بعض ما يتعلق به كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاء والطب واللباس وغير ذلك ، أبو بكر الآجري ، وأبو محمد الخلال ، وابنه والقاضي أبو يعلى ، أبو الحسين وابن الجوزي وغيرهم انتهى
.