فحصل من إنشاد قصيدة كعب بن زهير رضي الله عنه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعطائه عليه الصلاة والسلام البردة عدة سنن : إباحة ، وسماع التشبيب ، فإنه في قصيدة إنشاد الشعر واستماعه في المساجد والإعطاء عليه كعب رضي الله عنه في عدة مواضع ، فإنه ذكر محبوبته وما أصاب قلبه عند ظعنها ثم وصف محاسنها وشبهها بالظبي ، ثم ذكر ثغرها وريقها وشبهه بخمر ممزوجة بالماء ، ثم إنه استطرد من هذا إلى وصف ذلك الماء ثم من هذا إلى وصف الأبطح الذي أخذ منه ذلك الماء ، ثم إنه رجع إلى ذكر صفاتها فوصفها بالصد ، وإخلاف الوعد ، والتلون في الود ، وعدم التمسك بالعهد ، وضرب لها عرقوبا مثلا ، ثم لام نفسه على التعلق بمواعيدها ثم أشار إلى بعد ما بينه وبينها وأنه لا يبلغه إليها إلا ناقة من صفتها كيت [ ص: 185 ] وكيت . وأطال في وصف تلك الناقة على عادة العرب في ذلك . ثم إنه استطرد من ذلك إلى ذكر الواشين وأنهم يسعون بجانبي ناقته ويحذرونه القتل ، وأن أصدقاءه رفضوه وقطعوا حبل مودته ، وأنه أظهر لهم الجلد واستسلم للقدر ، وذكر لهم أن الموت مصير كل ابن أنثى ثم خرج إلى المقصود الأعظم وهو مدح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإلى الاعتذار إليه وطلب العفو منه والتبري مما قيل عنه ، وذكر شدة خوفه من سطوته وما حصل له من مهابته ، ثم إلى مدح أصحابه المهاجرين رضي الله عنهم أجمعين . هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده وأصحابه حوله وهو ملق بسمعه إليه ومقبل في كل ذلك عليه .
فهل يسوغ إنكار إنشاء الشعر واستماعه وإنشاد التشبيب واصطناعه بعد الوقوف على مثل هذه القصيدة وأمثال أمثالها مما هو مألوف ومعروف ؟ وهل يرد هذه الأخبار ، إلا معتد غدار ، أو جاهل بالآثار ، عن النبي المختار ، والسلف الأخيار ؟ هذا مع الإجماع على جواز استماعه في مثل تلك المحافل وعدم الإنكار على شيء من تلك الأشعار في أولئك الجحافل .