. فمن جملتها أن لا يكره ما ابتلاه الله تعالى به من الفقر ، وهذا واجب عليه . وأرفع من هذا أن يكون راضيا بالفقر . وأرفع منه أن يكون طالبا له وفرحا به ، ولهذا قال الناظم رحمه الله تعالى : واعلم أن للفقير الصابر آدابا
مطلب : في ؟ ( وادرع ) أصله ادترع بعد نقل درع إلى الافتعال قلبت التاء دالا فصار اددرع بدالين فأدغمت الدال في الدال الأخرى لوجوب الادغام فصار ادرع أنت ( الرضا ) أي اتخذ الرضا درعا ، يقال ادرع الرجل إذا لبس الحديد بالدال المهملة وفلان ادرع الليل إذا دخل في ظلمته يسري كأنه جعل الليل درعا ; لأن الدرع يستر من وقع الأسنة والليل يستر بظلمته عن أعين الرقباء . فإذا لبس الفقير درع الرضا فقد سلم من حراب الجزع وأسنة التسخط ونبال التبرم . قال في القاموس : الرضا ضد السخط . اتخاذ الرضا درعا ، وهل هو كسبي أو وهبي
قال الإمام المحقق ابن القيم في شرح منازل السائرين : قد أجمع العلماء على أنه مستحب مؤكد استحبابه ، واختلفوا في وجوبه على قولين . قال [ ص: 529 ] وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يحكيهما قولين لأصحاب الإمام رضي الله عنه ، وكان يذهب إلى القول باستحبابه . قال : ولم يجئ الأمر به كما جاء الأمر بالصبر ، وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم . قال : وأما ما يروى من الأثر : من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ ربا سوائي ، فهذا أثر إسرائيلي ليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم . أحمد
قال الإمام ابن القيم : قلت ولا سيما عند من يرى أنه من جملة الأحوال التي ليست مكتسبة وأنه موهبة محضة ، فكيف يؤمر به وليس مقدورا .
، وهذه مسألة اختلف فيها أرباب السلوك على ثلاث طرق فالخراسانيون قالوا إن الرضا من جملة المقامات وهو نهاية التوكل . فعلى هذا يمكن أن يتوصل إليه العبد باكتسابه . والعراقيون قالوا هو من جملة الأحوال ، وليس كسبيا للعبد ، بل هو نازلة تحل بالقلب كسائر الأحوال . والفرق بين المقامات والأحوال أن المقامات عندهم من المكاسب ، والأحوال مجرد المواهب .
وحكمت فرقة ثالثة بين الطائفتين منهم صاحب الرسالة يعني القشيري وغيره فقالوا : يمكن الجمع بينهما بأن يقال : بداية الرضا مكتسبة للعبد وهي من جملة المقامات ، ونهايته من جملة الأحوال ، فأوله مقام ونهايته حال . واحتج من جعله من جملة المقامات بأن الله مدح أهله وأثنى عليهم وندبهم إليه فدل على أنه مقدور لهم .
وقال صلى الله عليه وسلم { } وقال : { ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا } . من قال حين يسمع النداء رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا ، غفرت له ذنوبه
وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين ، وإليهما ينتهي ، وقد تضمنا ، والرضا بدينه والتسليم له ومن اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصديق حقا ، وهي سهلة بالدعوى واللسان ، ومن أصعب الأمور على الحقيقة والامتحان ، ولا سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها . ولسنا بصدد بيان ذلك . الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته ، والرضا برسوله والانقياد له
[ ص: 530 ] قال ابن القيم : والتحقيق في المسألة أن الرضا كسبي باعتبار سببه ، وهبي باعتبار حقيقته ، فمن تمكن بالكسب لأسبابه وغرس شجرته اجتنى منها ثمرة الرضا ، فإنه آخر التوكل ، فمن رسخ قدمه في التوكل والتسليم والتفويض حصل له الرضا ولا بد . ولكن لعزته وعدم إجابة أكثر النفوس له وصعوبته عليها لم يوجبه الله على خلقه رحمة منه بهم وتخفيفا عنهم . نعم ندبهم إليه وأثنى على أهله ، وأخبر أن ثوابه رضاه عنهم الذي هو أعظم وأكبر وأجل من الجنات وما فيها ، فمن رضي عن ربه رضي الله عنه ، بل رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه ، فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده ، رضا قبله أوجب له أن يرضى عنه ، ورضا بعده هو ثمرة رضاه عنه .
ولذا كان الرضا باب الله الأعظم ، وجنة الدنيا ، ومستراح العارفين ، وحياة المحبين ، ونعيم العابدين ، وقرة أعين المشتاقين .
ومن أعظم أسباب حصول الرضا أن يلزم ما جعل الله سبحانه رضاه فيه فإنه يوصله إلى مقام الرضا ولا بد . قيل رحمه الله : ليحيى بن معاذ ؟ فقال إذا أقام نفسه على أربعة فصول فيما يعامل به ربه ، فيقول إن أعطيتني قبلت ، وإن منعتني رضيت ، وإن تركتني عبدت ، وإن دعوتني أجبت . متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا
ولهذا قال الناظم : رحمه الله تعالى بعد أمره باتخاذ الرضا درعا وجنة ووقاية يتحصن به عن اختلاج القلب واضطرابه من النوائب والخطرات والهواجس والشبهات ، بل يكون مطمئن القلب ساكن اللب ( ل ) جميع ( ما ) أي الذي ( قلب ) هـ ( الرحمن ) جل ثناؤه وصرفه وقضاه وقدره من المكروهات والمحبوبات .