ثم ذكر الناظم أشياء من فضل العزلة عن الناس فقال :
مطلب : في وأنها موجبة لسلامة الدين : وفي خلوة الإنسان بالعلم أنسه ويسلم دين المرء عند التوحد ( وفي خلوة ) أي انفراد ( الإنسان ) عن الناس وأحوالهم وشئونهم ( ب ) مطالعة كتب ( العلم ) من التفسير والحديث والفقه وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والتفهم في ذلك ، وتتبع أيامه صلى الله عليه وسلم وأحواله وشئونه " والتأدب بآدابه . فضل العزلة عن الناس
والتخلق بما أمكنه من أخلاقه ، وذكر غزواته وسراياه ومكاتباته ، والوفود الذين كانوا يفدون عليه من أقطار الأرض [ ص: 461 ] ومطالعة كتب الرقائق والوعظ وذم الدنيا والاحتفال بها والرضا عن النفس ، ومطالعة اللغة العربية وكتب النحو وما يحتاج إليه من الآلات ، فمطالعة المرء لهذه العلوم والخلوة بها ( أنسه ) في خلوته ووحدته . قال في القاموس : والأنس بالضم وبالتحريك والأنسة محركة ضد الوحشة ، وقد أنس به بتثليث النون وآنسه ضد أوحشه ، وآنس الشيء أبصره .
فإذا كان الإنسان قد منحه الله تعالى طرفا صالحا من العلوم وانفرد بها عن أبناء زمانه في خلوته لم يستوحش أبدا . كيف وهو يمر على أخبار الأوائل وأيامهم ، ويطلع على شئونهم وأحوالهم ، ويظهر على أفعالهم وكلامهم ، ونثرهم ونظامهم ، وكرمهم وقتالهم ، وهممهم ونكالهم ، وإقدامهم وإحجامهم ، وإحلالهم وإبرامهم ، وكفرهم وإسلامهم ، وأديانهم وأصنامهم ، وحلم الرسل وعزمهم ، وسعة أخلاقهم وحزمهم ، وعفوهم وصبرهم ، وتضرعهم إلى الحق وذكرهم ، حتى إذا انتهيت إلى سيرة الخاتم للرسالة والقامع للكفر والضلالة ، كنت كأنك بين أظهر الصحابة الكرام الذين قشع الله بهم الكفر وأباده ، ونصر بهم نبيه صلى الله عليه وسلم وأهلك أضداده ، فتارة تفرح وأخرى تبكي ، ورأيت وقعاتهم واحدة تشرح وأخرى تنكي فمن كان في خلوته بهذه المثابة ، كيف لا تفارقه الوحشة والكآبة ، ويصحبه الأنس والسرور والمهابة ، مع ما يطلع عليه من معرفة الأحكام الشرعية ، والأخبار النبوية ، وسير الملوك والدول ، وأخبار الأحبار والأول ، والشرائع والملل ، والمقالات والنحل ، وأهل التقوى والخشوع ، والطاعة والخضوع ، والظلمة والجبابرة ، والأكاسرة والقياصرة ، فكل هذا يأنس به في خلوته ، ويسكن إليه في وحدته ( ويسلم دين المرء ) المختلي من شائبة الرياء ومقارفة الأذى ( عند التوحد ) والانفراد ، والعزلة عن العباد .
ومن سلم دينه فقد حصل على غاية المراد ، وسعد كل الإسعاد .
ولا يخفى عليك أن إنما تمدح لمن أتقن أمر دينه ، وعلم من العلوم ما يتعين عليه علمه ، وعرف الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحظور ، وما يجب لله ويجوز ، وما يستحيل في حقه جل شأنه وتعالى سلطانه ، وكذا الرسل عليهم الصلاة والسلام . وهذا مفهوم من [ ص: 462 ] فحوى كلام الناظم حيث إنه جعل هذا المختلي قد أنس بما معه من العلوم والمعارف ، والأذكار والوظائف ، وهذا لا بد منه قبل الخلوة ليعبد الله على علم والله تعالى أعلم . الخلوة عن الخلق