قال الإمام ابن هشام في شرحه لقصيدة كعب : عبارة عن ترك التحديق واستيفاء النظر ، فتارة يكون ذلك لأن في الطرف كسرا وفتورا خلقيين وهو المراد في كلام غض الطرف كعب ، وتارة يكون لقصد الكف عن التأمل حياء من الله تعالى وهو المراد في كلام الناظم ، فإن مراده رحمه الله تعالى فاغضض طرفك امتثالا لقوله تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } ولما سنذكره من الأخبار النبوية والآثار المروية ( ما اسطعت ) أي مدة استطاعتك ، يقال استطاع واسطاع بحذف التاء تخفيفا لأنهم يستثقلونها مع الطاء ويكرهون إدغام التاء فيها فتحرك السين وهي لا تحرك أبدا .
وقرأ { حمزة فما استطاعوا } بالإدغام فجمع بين الساكنين . وبعض العرب تقول استاع يستيع ، وبعضهم يقول إسطاع يسطيع بقطع الهمزة بمعنى أطاع يطيع ومعنى ذلك طاق ( تهتد ) أي ترشد بغض طرفك لامتثال أمر ربك واتباع سنة نبيك ، وتسلم من غائلة النظر وتعبه وجرمه ووصبه .
أخرج عن الطبراني رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عن ربه عز وجل { ابن مسعود } ورواه النظرة سهم مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه من حديث الحاكم وقال صحيح الإسناد وفيه نظر . وأخرج الإمام حذيفة عن أحمد أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { } رواه ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه إلا أنه قال ينظر إلى امرأة أول رمقة الطبراني قال إنما أراد إن صح والله أعلم أن يقع بصره عليها من غير قصد فيصرف بصره عنها تورعا . والبيهقي
وروى الأصبهاني عن رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { أبي هريرة كل عين باكية يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله ، وعينا سهرت في سبيل الله ، وعينا خرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله } .
[ ص: 83 ] وأخرج بإسناد رجاله ثقات إلا الطبراني أبا حبيب العبقري ويقال له الغنوي فقال لم أقف عليه ، عن المنذري معاوية بن حيدرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { } . وأخرج الإمام ثلاثة لا ترى أعينهم النار : عين حرست في سبيل الله ، وعين بكت من خشية الله ، وعين كفت عن محارم الله أحمد في صحيحه وابن حبان وقال صحيح الإسناد واعترضه والحاكم عن المنذري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { عبادة بن الصامت } . اضمنوا لي ستا من أنفسكم أضمن لكم الجنة ، اصدقوا إذا حدثتم ، وأوفوا إذا وعدتم ، وأدوا إذا اؤتمنتم ، واحفظوا فروجكم ، وغضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم
وأخرج الإمام أحمد والترمذي عن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له { علي بن أبي طالب إن لك كنزا في الجنة وإنك ذو قرنيها ، فلا تتبع النظرة النظرة ، فإنما لك الأولى وليست لك الأخرى علي } . يا
ورواه أبو داود من حديث قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بريدة { لعلي لا تتبع النظرة النظرة ، فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة علي } وحسنه يا الترمذي .
فقوله صلى الله عليه وسلم { لعلي } أي ذو قرني هذه الأمة ، وذلك لأنه كان له شجتان في قرني رأسه أحدهما من إنك ذو قرنيها ابن ملجم لعنه الله والأخرى من عمرو بن عبد ود . قاله . المنذري
وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي في التبصرة في قوله صلى الله عليه وسلم وإنك ذو قرنيها : وفي الضمير وجهان أحدهما أنه كناية عن هذه الأمة من غير ذكر تقدم لها كقوله تعالى { لعلي حتى توارت بالحجاب } يعني الشمس .
الثاني عن الجنة . وأما تسميته بذي القرنين ففيه وجهان إن قلنا أن الكناية عن الأمة فإن رضي الله عنه ضرب على رأسه في الله تعالى ضربتين ، الأولى ضربه إياها عليا عمرو بن عبد ود ، الثانية ابن ملجم ، كما ضرب ذو القرنين ضربة بعد ضربة . وإن قلنا الكناية عن الجنة فقرناها جانباها . ذكره . ابن الأنباري
وقال الحافظ المنذري : وقيل معناه أنك ذو قرني الجنة أي ذو طرفيها وملكها الممكن فيها الذي يسلك جميع نواحيها كما سلك الإسكندر [ ص: 84 ] جميع نواحي الأرض شرقا وغربا فسمي ذا القرنين على أحد الأقوال .
وقد بينت ذلك في كتابي الجواب المحرر في الكشف عن الخضر والإسكندر .
قال ابن الجوزي : قوله صلى الله عليه وسلم { } إلخ ربما تحايل أحد جواز القصد للأولى وليس كذلك ، وإنما الأولى التي لم يقصدها . وفي أفراد فلا تتبع النظرة النظرة من حديث مسلم رضي الله عنه قال { جرير بن عبد الله } قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النظرة الفجأة قال اصرف نظرك ابن الجوزي : وهذا لأن الأولى لم يحضرها القلب ، ولا يتأمل بها المحاسن ، ولا يقع الالتذاذ بها ، فمتى استدامها مقدار حضور الذهن كانت كالثانية في الإثم .
وأخرج البخاري عن ومسلم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أبي هريرة آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة ، العينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطا ، والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه } . كتب على ابن
وفي رواية لمسلم وأبي داود { } . واليدان تزنيان وزناهما البطش ، والرجلان تزنيان فزناهما المشي ، والفم يزني فزناه القبل
وأخرج الإمام بإسناد صحيح أحمد والبزار وأبو يعلى عن رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ابن مسعود } . العينان تزنيان ، والرجلان تزنيان ، والفرج يزني
وأخرج عن البيهقي مرفوعا { ابن مسعود } ومعنى حواز بفتح الحاء المهملة وتشديد الواو وهو ما يحوزها ويغلب عليها حتى ترتكب ما لا يحسن ، وقيل بتخفيف الواو وتشديد الزاي جمع حازة وهي الأمور التي تحز في القلوب وتحك وتؤثر وتتخالج في القلوب فتكون معاصي ، وهذا أشهر . الإثم حواز القلوب وما من نظرة إلا وللشيطان فيها مطمع
ومنه { } وروي عن الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { } . لتغضن أبصاركم ، ولتحفظن فروجكم ، أو ليكسفن الله وجوهكم
[ ص: 85 ] وفي صحيح عن الحاكم مرفوعا { ابن مسعود ما من صباح إلا وملكان يناديان ويل للرجال من النساء ، وويل للنساء من الرجال } .
وفي التبصرة : كان عيسى ابن مريم عليه السلام يقول : النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها خطيئة .
وقال الحسن رضي الله عنه : من أطلق طرفه كثر أسفه .
وقال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه الداء والدواء : أما اللحظات فهي رائدة الشهوة ورسولها ، وحفظها أصل حفظ الفرج ، فمن أطلق بصره أورده موارد الهلكات . وذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { } . إياكم والجلوس على الطرقات ، قالوا يا رسول الله مجالسنا ما لنا منها بد ، قال فإن كنتم لا بد فاعلين فأعطوا الطريق حقه . قالوا : وما حقه ؟ قال : غض البصر وكف الأذى ، ورد السلام
وقد نظم الحافظ ابن حجر في قوله : آداب الجلوس على الطريق
جمعت آداب من رام الجلوس على الط ريق من قول خير الخلق إنسانا أفش السلام وأحسن في الكلام وش
مت عاطسا وسلاما زاد إحسانا في الحمل عاون ومظلوما أعن وأغث
لهفان وارشد سبيلا واهد حيرانا بالعرف مر وانه عن نكر وكف أذى
وغض طرفا وأكثر ذكر مولانا
والصم والعمي أبلغ ثم دل على ال حاجات والأغبيا كن صاح فطانا
وفي هذا قيل : الصبر على غض الطرف أيسر من الصبر على ألم بعده . وقال الشاعر : [ ص: 86 ]
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والعبد ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على خطر
يسر ناظره ما ضر خاطره لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
وما أحسن قول الإمام الصرصري رحمه الله ورضي عنه :
وغض عن المحارم منك طرفا طموحا يفتن الرجل اللبيبا
فخائنة العيون كأسد غاب إذا ما أهملت وثبت وثوبا
ومن يغضض فضول الطرف عنها يجد في قلبه روحا وطيبا
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
مل السلامة فاغتدت لحظاته وقفا على طلل يظن جميلا
ما زال يتبع إثره لحظاته حتى تشحط بينهن قتيلا
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف ترتاد الشفاء له توقه إنه يرتد بالعطب
ترجو الشفاء بأحداق بها مرض فهل سمعت ببرء جاء من عطب
ومفنيا نفسه في إثر أقبحهم وصفا للطخ جمال فيه مكتسب
وواهبا عمره من مثل ذا سفها لو كنت تعرف قدر العمر لم تهب
وبائعا طيب عيش ما له خطر بطيف عيش من الأيام منتهب
غبنت والله غبنا فاحشا فلو اس ترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخب
شاب الصبا والتصابي لم يشب سفها وضاع وقتك بين اللهو واللعب
وشمس عمرك قد حان الغروب لها والغي في الأفق الشرقي لم يغب
ما زلت تتبع نظرة في نظرة في إثر كل مليحة ومليح
وتظن ذاك دواء جرحك وهو في الت تحقيق تجريح على تجريح
فذبحت طرفك باللحاظ وبالبكا فالقلب منك ذبيح ابن ذبيح