مطلب ؟ . هل السمع أفضل أم البصر
وقال في موضع آخر : ولما كان للسمع والبصر من الإدراك ما ليس لغيرهما من الأعضاء كانا في أشرف جزء من الإنسان وهو وجهه . واختلف [ ص: 77 ] في الأفضل منهما ، فقالت طائفة منهم أبو المعالي وغيره : السمع أفضل من البصر . قالوا لأنه به تنال سعادة الدنيا والآخرة ، فإنها إنما تحصل بمتابعة الرسل وقبول رسالاتهم ، وبالسمع عرف ذلك ، فإن من لا سمع له لا يعلم ما جاءوا به .
وأيضا فإن السمع يدرك به أجل شيء وأفضله وهو كلام الله الذي فضله على الكلام كفضل الله على خلقه . وأيضا إنما تنال العلوم بالتفاهم والتخاطب ولا يحصل ذلك إلا بالسمع ، ومدرك السمع أعم من مدرك البصر ، فإنه يدرك الكليات والجزئيات ، والشاهد والغائب ، والموجود والمعدوم ، بخلاف البصر فإنه إنما يدرك بعض المشاهدات ، والسمع يسمع كل علم ، فأين أحدهما من الآخر .
ولو فرضنا شخصين أحدهما يسمع كلام الرسول ولا يرى شخصه ، والآخر بصير يراه ولا يسمع كلامه لصممه هل كانا سواء ؟ وأيضا ففاقد البصر إنما يفقد إدراك بعض الأمور الجزئية المشاهدة ويمكنه معرفتها بالصفة ولو تقريبا بخلاف فاقد السمع ، فإن الذي فاته من العلم لا يمكن حصوله بحاسة البصر ولا قريبا منه .
وقد ذم الله سبحانه الكفار بعدم السمع في القرآن أكثر من ذمه لهم بعدم البصر ، بل إنما يذمهم بعدم البصر تبعا لعدم العقل والسمع .
وأيضا الذي يورده السمع على القلب من العلوم لا يلحقه فيه كلال ولا سآمة ولا تعب مع كثرته وعظمه ، بخلاف الذي يورده البصر عليه فإنه يلحقه فيه الكلال والضعف والنقص ، وربما خشي صاحبه على ذهابه مع قلته بالنسبة إلى السمع .
وقالت طائفة منهم : بل البصر أفضل ، فإن أعلى النعيم لذة وأفضله منزلة النظر إلى الله تعالى في دار الآخرة ، وهذا إنما ينال بالبصر ، وهذه وحدها كافية في تفضيله . قالوا وهو مقدمة القلب وطليعته ورائده ، فمنزلته عنده أقرب من منزلة السمع ، ولهذا كثيرا ما يقرن بينهما في الذكر كقوله { ابن قتيبة فاعتبروا يا أولي الأبصار } فالاعتبار بالقلب والبصر بالعين . وقوله { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } ولم يقل وأسماعهم .
وقال تعالى { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } [ ص: 78 ] وقال { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } وهذا وأمثاله يدل على شدة الوصلة والارتباط بين القلب والبصر . ولما كان القلب أشرف الأعضاء كان أشدها ارتباطا به أشرف من غيره ، ولهذا يأمنه القلب على ما لا يأمن السمع عليه ، بل إذا ارتاب من جهة عرض ما يأتيه به على البصر ليزكيه أو يرده ، فالبصر حاكم مؤتمن عليه .
قالوا : ومن هذا الحديث المشهور الذي رواه الإمام في مسنده مرفوعا { أحمد } ولذا أخبر الله سبحانه ليس المخبر كالمعاين موسى بأن قومه افتتنوا من بعده وعبدوا العجل فلم يلحقه في ذلك ما لحقه عند رؤية ذلك ومعاينته من إلقاء الألواح وكسرها لقوة المعاينة على الخبر . وهذا إبراهيم خليل الله سأل ربه يريه كيف يحيي الموتى ، وقد علم ذلك بخبر الله له ، ولكن طلب أفضل المنازل وهي طمأنينة القلب .
قالوا : ولليقين ثلاث مراتب ، أولها السمع ، وثانيها العين وهي المسماة بعين اليقين وهي أفضل من المرتبة الأولى وأكمل وتقدم بيانها .
قالوا : وأيضا فالبصر يؤدي إلى القلب ويؤدي عنه ، فإن العين مرآة القلب يظهر فيها ما يحبه من البغض والمحبة ، والموالاة والمعاداة ، والسرور والحزن ، وأما الأذن فلا تؤدي عن القلب شيئا ألبتة ، وإنما مرتبتها الإيصال إليه حسب ، فالعين أشد تعلقا به .
قال : والصواب أن كلا منهما له خاصية فضل بها الآخر ، فالمدرك بالسمع أعم وأشمل ، والمدرك بالبصر أتم وأكمل . فالسمع له العموم والشمول ، والبصر له الظهور والتمام وكمال الإدراك .
وأما نعيم الجنة فشيئان :
أحدهما النظر إلى الله .
والثاني : سماع خطابه وكلامه كما رواه الإمام بن الإمام عبد الله بن الإمام أحمد في السنة وغيره : كأن الناس يوم القيامة لم يسمعوا القرآن إذا سمعوه من الرحمن عز وجل . قال ومعلوم أن سلامه عليهم وخطابه لهم ومحاضرته إياهم كما في الترمذي وغيره لا يشبهها شيء قط ، ولا يكون أطيب عندهم منها . ولهذا يذكر سبحانه في وعيد أعدائه أنه لا يكلمهم كما يذكر أصحابه عنهم ولا يرونه ، فكلامه ورؤيته أعلى نعيم أهل الجنة .
[ ص: 79 ] وقال في موضع آخر من كتاب مفتاح دار السعادة : واختلف النظار في الضرير والأطرش أيهما أقرب إلى الكمال وأقل اختلالا لأموره ، وهذا مبني على أصل وهو أي الصفتين أكمل ، صفة السمع أو صفة البصر ، ثم أشار إلى ما قدمنا وأنه أي الصفتين كان أكمل فالضرر بعدمها أقوى .
ثم قال : والذي يليق بهذا الموضع أن يقال : عادم البصر أشدهما ضررا ، وأسلمهما دينا وأحمدهما عاقبة . وعادم السمع أقلهما ضررا في دنياه ، وأجهلهما بدينه ، وأسوأ عاقبة ، فإنه إذا عدم السمع عدم المواعظ والنصائح ، وانسدت عليه أبواب العلوم النافعة ، وانفتح له طرق الشهوات التي يدركها البصر ، ولا يناله من العلم ما يكفه عنها . فضرره في دينه أكثر ، وضرر الأعمى في دنياه أكثر . ولهذا لم يكن في الصحابة رضي الله عنهم أطرش ، وكان فيهم جماعة أضراء ، وقل أن يبتلي الله أولياءه بالطرش ، ويبتلي كثيرا منهم بالعمى .
فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة ، فمضرة الطرش في الدين ، ومضرة العمى في الدنيا ، والمعافى من عافاه الله منهما ومتعه بسمعه وبصره ، وجعله الوارث منه . انتهى .
والحاصل أن القلب ، إذ هو الملك ، ثم اللسان ، ثم السمع لسعة إدراكه ، ثم البصر على اختلاف في الأخيرين كما ذكرنا . وأما الأولان فلا خلاف فيهما فيما علمنا . ولذا يلحق من عدم البيانين بيان اللسان وبيان الجنان بالحيوانات البهيمية ، بل هي أحسن حالا منه ، وإن عدم بيان اللسان وحده عدم خاصية الإنسان وهي النطق واشتدت المؤنة به وعليه ، وعظمت حسرته فطال تأسفه على رد الجواب ورجع الخطاب ، فهو كالمقعد الذي يرى ما هو محتاج إليه ولا تمتد يده إليه . فجل شأن الله كم له من نعمة على عباده سابغة في هذه الأعضاء والقوى والمنافع ، فحكمته سبحانه بالغة . أفضل الجوارح
وهذه مسألة شريفة قل أن تعثر عليها في كتاب ، والله أعلم بالصواب .