قال بعض الأصحاب : يكره أن يستعين مسلم بذمي في شيء من أمور المسلمين مثل كتابة وعمالة وجباية خراج وقسمة فيء وغنيمة وحفظ ذلك إلا لضرورة . قال في الآداب الكبرى : ولا يكون بوابا ولا جلادا ونحوهما . وأخرج الإمام بإسناد صحيح عن قال : قلت أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما : إن لي كاتبا نصرانيا قال : مالك قاتلك الله ، أما سمعت الله سبحانه وتعالى يقول : { لعمر يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } ألا اتخذت حنيفا ؟ قال : قلت : يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال : لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله قال شيخ الإسلام قدس الله روحه : فمن أعظم المصائب على الإسلام وأهله أن يجعلوا في دواوين المسلمين يهوديا ، أو نصرانيا انتهى .
ولأن بالاستعانة بهم في ذلك من المفسدة ما لا يخفى ، وهو ما يلزم عادة أو يفضي إليه من تصديرهم في المجالس ، والقيام لهم وجلوسهم ووقوف المسلمين وابتدائهم بالسلام مع تذلل المسلمين بين أيديهم وخضوعهم لديهم والتملق وإظهار الحب ، والإعزاز لهم لما يلزم من ذلك لاحتياجهم إليهم لكون الديوان في أيديهم .
وذكر السلطان الملك المنصور أبو المعالي محمد بن أيوب في كتابه درر الآداب ومحاسن ذوي الألباب : أن كتب إلى جميع عماله في الآفاق : أما بعد ، فإن عمر بن عبد العزيز يقرئ عليكم السلام ويقرأ عليكم من كتاب الله المبين { عمر يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } الآية ، واعلموا أنه لم يهلك من هلك قبلكم إلا بمنعه الحق وبسط يد الظلم ، وقد بلغني عن قوم من المسلمين فيما مضى ، إذا قدموا بلدا أتاهم أهل الشرك فاستعانوا بهم في أعمالهم وكتابتهم لعلمهم بالكتابة ، والحساب والتدبير ولا خيرة [ ص: 16 ] ولا تدبير فيما يغضب الله ورسوله ، وقد كانت لهم في ذلك مدة ، وقد قضاها الله تعالى فلا نعلمن أن أحدا من العمال أبقى في عمله رجلا متصرفا على غير دين الإسلام إلا نكل به ، وليكتب كل منكم بما فعله في عمله ، وأمر أن يمنع النصارى ، واليهود من الركوب على السروج إلا على الأكف . قال : وكتب إلى حيان عامله بمصر باعتماد ذلك فكتب إليه حيان : أما بعد يا أمير المؤمنين إن دام هذا الأمر في مصر أسلمت أهل الذمة وبطل ما يؤخذ من الخراج ، فأرسل إليه ، وقال له : ائت خالدا مصر فاضرب حيان على رأسه ثلاثين سوطا أدبا على قوله وقل له : ويلك يا حيان من دخل في دين الإسلام فضع عنه الجزية فوددت أن أسلموا كافة ، الله أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا لا جابيا .
قال : وكتب في أيام المهدي بن المنصور بعض الزهاد لما رأى تمكن أهل الذمة وإهمال المسلمين في أيامه هذه الأبيات :
بأبي وأمي ضاعت الأحلام أم ضاعت الأذهان والأفهام من حاد عن دين النبي محمد
أله بأمر المسلمين قيام إلا تكن أسيافهم مشهورة
فينا فتلك سيوفهم أقلام
وإن علم أن أحدا من المسلمين استكتب أحدا من اليهود والنصارى قطعت يده وذلك في سنة ثمان وخمسين ومائة ، وقال من قصيدة يمدح بها خالد بن صفوان رضي الله عنه ويحثه على قتل القبط ويغريه بهم وأنشدها عمرو بن العاص عمر بن عبد الله لما استحضره وسأله عن القبط فقال : هم بقية الفراعنة الذين [ ص: 17 ] كانوا للمأمون بمصر .
وقال له : وقد نهى أمير المؤمنين رضي الله عنه عن استخدامهم فقال له عمر بن الخطاب : صف لي كيف كان شأنهم في المأمون مصر فقال له : يا أمير المؤمنين لما أخذت الفرس الملك من أيدي الفراعنة قتلوا القبط فلم يبق منهم إلا من اصطنعته أيدي الهرب واختفى وتعلموا كتابا وأطباء وحسابا ، فلما ملكت الروم كانوا هم سببا لإخراج الفرس عن ملكهم ، وأقاموا في مملكة الروم إلى أن ظهرت كلمة المسيح ، ثم أنشده القصيدة ، وهي :
يا عمرو قد ملكت يمينك مصرنا وملكت فيها العدل والإقساطا
فاقتل بسيفك من تعدى طوره واجعل فتوح سيوفك الأقباطا
فيهم أقيم الجور في جنباتها ورأى الأنام النفي والإفراطا
عبدوا الصليب وثلثوا لاهوتهم وتوازروا وتعدوا الأشراطا
لا تركنن إلى النصارى إنهم شعب على دين الإله تعاطا
واذكر أمير المؤمنين وقوله إن كنت في طاعاته محتاطا
لا تقبلن لمشرك عهدا ولا ترعى له ذمما ولا أخلاطا
فقال له : أيقرأ أمير المؤمنين كتاب الله ولا يعمل به ، فعند ذلك أمر بصرف الكسائي أهل الذمة من جميع الأعمال بالمملكة الإسلامية ، واتفق في أيام ذلك أنه دخل بعض الفضلاء على وعنده ذمي في مجلسه له حرمة ووقار ، فاستأذنه الفاضل في إنشاد بيتين من الشعر ، فأذن له فأنشد : المأمون
يا ابن الذي طاعته في الورى وحبه مفترض واجب
إن الذي شرفت من أجله يزعم هذا أنه كاذب
فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قبالة ما فعلوه بنا ، وجميع ما نأخذه من أموال المسلمين فهو حل لنا وبعض ما نستحقه ، فإذا حملنا إليهم مالا كانت المنة لنا عليهم ، ثم أنشد :
بنت كرم غصبوها أهلها وأهانوها بدوس بالقدم
ثم عادوا حكموها فيهم ولها أمر بخصم يحتكم
( تنبيه ) : اقتصر الناظم على كون استئماننا أهل الذمة في مال وقسمته مكروها ، وظاهر ما اعتمده في الإقناع وغيره حرمة الاستعانة بهم في الغزو وبأهل الأهواء في الغزو وغيره ، فإنه قال : ويحرم أن يستعين بكفار إلا لضرورة ، وأن يعينهم على عدوهم إلا خوفا قالالشيخ : ومن تولى منهم ديوانا للمسلمين انتقض عهده ويحرم أن يستعين بأهل الأهواء في شيء من أمور المسلمين من غزو وعمالة وكتابة وغير ذلك .
وقال في موضع آخر : ويكره أن مثل كتابة وعمالة وجباية خراج وقسمة فيء وغنيمة وحفظ ذلك في بيت المال وغيره ونقله إلا لضرورة ، ولعله أراد بالضرورة الحاجة ; لأن القاعدة زوال الكراهة بأدنى حاجة ، ثم قال : ولا يكون بوابا ولا جلادا وجهبذا ، وهو النقاد الخبير ، ونحو ذلك . يستعين مسلم بذمي في شيء من أمور المسلمين
قال : ويحرم وغيره ، توليتهم الولايات من ديوان المسلمين قال في شرح المنتهى فارقا بين أهل الأهواء والذمة : إن أهل الأهواء دعاة لما هم عليه ، . ويكره أن يستشاروا أو يؤخذ برأيهم
وأما أهل الذمة فلا يدعون إلى أديانهم نصا ، وقال في الفروع : ويحرم ويتوجه يكره أن يستعين بكفار إلا لضرورة ، وذكر جماعة لحاجة ، وعنه : يجوز مع حسن رأي فينا ، زاد جماعة وجزم به في المحرر وقوته بهم [ ص: 19 ] بالعدو . وفي الواضح روايتان : الجواز وعدمه بلا ضرورة وبناهما على الإسهام له ، كذا قال : وفي البلغة : يحرم إلا لحاجة بحسن الظن قال : وقيل إلا لضرورة وأطلق أبو الحسن وغيره أن الرواية لا تختلف أنه لا يستعان بهم ولا يعاونون وأخذ من تحريم الاستعانة تحريمها في العمالة ، والكتابة وسأله القاضي أبو طالب عن مثل الخراج قال : لا يستعان بهم في شيء وأخذ منه أنه لا يجوز كونه عاملا في الزكاة ، فدل أن المسألة على روايتين ، والأولى المنع ، واختاره القاضي شيخنا وغيره أيضا ; لأنه يلزم منه مفاسد أو يفضي إليها ، فهو أولى من مسألة الجهاد .
وقال شيخنا : من تولى منهم ديوانا للمسلمين انتقض عهده ; لأنه من الصغار وفي الرعاية يكره إلا لضرورة تحريم ; لأن فيه أعظم الضرر ; لأنهم دعاة الاستعانة بأهل الأهواء في شيء من أمور المسلمين ، واليهود والنصارى لا يدعون إلى أديانهم نص على ذلك انتهى كلامه في الفروع .
فظهر أن المعتمد من المذهب الكراهة فقط كما عليه الناظم ، وأن القول الثاني يحرم ذلك ، وعليه الشيخ رضي الله عنه . قلت : واعتمده شيخ مشايخنا الشيخ عبد الباقي الأثري الحنبلي في رسالة له متعلقة بأهل الذمة ، فالله يؤيد دينه وينصر ملة نبيه إنه جواد كريم رءوف رحيم . .