قال في الآداب الكبرى : وتباح المعانقة وتقبيل اليد والرأس تدينا وإكراما واحتراما مع أمن الشهوة . وظاهر هذا عدم إباحته لأمر الدنيا . واختاره [ ص: 333 ] بعض الشافعية ، والكراهة أولى .
قال : سألت المروذي عن قبلة اليد ، فقال : إن كان على طريق التدين فلا بأس ، قبل أبا عبد الله يد أبو عبيدة رضي الله عنهما . وإن كان على طريق الدنيا فلا إلا رجلا تخاف سيفه أو سوطه . عمر بن الخطاب
وقال أيضا : وكرهها على طريق الدنيا . وقال المروذي تميم بن سلمة التابعي : القبلة سنة .
وقال مهنا بن يحيى : رأيت كثيرا يقبل وجهه ورأسه وخده ولا يقول شيئا . ورأيته لا يمنع من ذلك ، ورأيت أبا عبد الله يقبل جبهته ورأسه ، ولا يمتنع من ذلك ولا يكرهه . سليمان بن داود الهاشمي
وقال : رأيت كثيرا من العلماء والفقهاء والمحدثين عبد الله بن الإمام وبني هاشم وقريش والأنصار يقبلونه يعني أباه بعضهم يده وبعضهم رأسه ويعظمونه تعظيما لم أرهم يفعلون ذلك بأحد من الفقهاء غيره ، ولم أره يشتهي أن يفعل به ذلك .
وقال له : ترى أن يقبل الرجل رأس الرجل أو يده ؟ قال : نعم . وقال إسماعيل بن إسحاق الثقفي شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : تقبيل اليد لم يكونوا يعتادونه إلا قليلا .
وذكر ما رواه أبو داود وغيره عن رضي الله عنهما أنهم { ابن عمر مؤتة وقالوا نحن الفرارون قال : بل أنتم العكارون أنا فيئة المؤمنين فقبلوا يده } . لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم عام
وفي شرح البخاري للحافظ بن حجر { أن أبا لبابة وصاحبه قبلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم حين تاب الله عليهم وكعب بن مالك } . ذكره الأبهري .
وقبل يد زيد بن ثابت حين أخذ ابن عباس بركابه . قال ابن عباس : صلى ابن عبد البر على جنازة أمه فقربت له بغلته ليركب فأخذ زيد بن ثابت بركابه فقال خل عنها يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس هكذا نفعل بالعلماء ; لأنه كان يأخذ عنه العلم ، فقبل ابن عباس يده ، وقال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم . زيد
[ ص: 334 ] قال : ورخص فيه أكثر العلماء وغيره على وجه التدين ، وكرهه آخرون كأحمد . وقال كمالك : هي السجدة الصغرى . سليمان بن حرب
قال : يقال تقبيل اليد إحدى السجدتين . قال ابن عبد البر : وأما ابتداء الإنسان بمد يده للناس ليقبلوها ، وقصده لذلك فهذا ينهى عنه بلا نزاع كائنا من كان بخلاف ما إذا كان المقبل هو المبتدئ بذلك انتهى . سليمان بن حرب
ولما تناول يد أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما ليقبلها قبضها ، فتناول رجله فقال ما رضيت منك بتلك فكيف هذه . عمر
وقبض يده من رجل أراد أن يقبلها ، وقال : مه فإنه لم يفعل هذا من هشام بن عبد الملك العرب إلا هلوع ، ومن العجم إلا خضوع . وقال : قبلة يد الإمام العادل طاعة . وقال الحسن البصري رضي الله عنه : قبلة الوالد عبادة ، وقبلة الولد رحمة ، وقبلة المرأة شهوة ، وقبلة الرجل أخاه دين . علي
وقد صرح الإمام الحافظ ابن الجوزي بأن معصية إلا أن يكون عند خوف . وقال في مناقب أصحاب الحديث : ينبغي للطالب أن يبالغ في التواضع للعالم ويذل له . قال : ومن التواضع تقبيل يده . تقبيل يد الظالم
وقبل سفيان بن عيينة أحدهما يد والفضيل بن عياض والآخر رجله . قال الإمام حسين بن علي الجعفي في شرح الهداية : أما أبو المعالي لرفده والسيد لسلطانه فجائز ، وأما إن قبل يده لغناه فقد روي { تقبيل يد العالم والكريم من تواضع لغني لغناه فقد ذهب ثلثا دينه } انتهى .
وقد علمت أن الصحابة قبلوا يد المصطفى كما في حديث المار عند قدومهم من غزوة ابن عمر مؤتة .
وروى الإمام أحمد والترمذي وغيرهم بأسانيد صحيحة وصححه والنسائي الترمذي عن صفوان بن عسال قال { } . قال يهودي لصاحبه : اذهب بنا إلى هذا النبي ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألا عن تسع آيات بينات ، فذكر الحديث إلى قوله فقبلا يده ورجله وقالا نشهد أنك نبي الله
[ ص: 335 ] وروى أبو داود عن أم أبان بنت الوازع بن زارع عن جدها زارع وكان في وفد عبد القيس قال { } وكذا رواه فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجله كما في السيرة الشامية ، وفيها { البيهقي منذر الأشج حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها وهو سيد الوفد وكان دميما فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دمامته قال : يا رسول الله إنه لا يسقى في مسوك أي جلود الرجال إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه : لسانه وقلبه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن فيك خلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة } الحديث . ثم جاء
وروي أيضا قصة لما طعنه النبي صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود فقال { أسيد بن حضير } إسناده ثقات . وروي نحوه في غزوة اصبرني ، فقال : اصطبر ، أي قدني ، فقال اتقد ، قال إن عليك قميصا وليس علي قميص ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه ، قال إنما أردت هذا يا رسول الله بدر .
قلت وفي السيرة النبوية في غزوة حنين { ابن عمه صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة لما لقينا القوم يوم أبو سفيان بن الحارث حنين اقتحمت عن فرسي وبيدي السيف مصلتا والله أعلم أني أريد الموت دونه صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلي ، فقال له يا رسول الله أخوك وابن عمك العباس فارض عنه ، قال غفر الله له كل عداوة عادانيها ، ثم التفت وقال يا أخي ، فقبلت رجله في الركاب وقال صلى الله عليه وسلم أبو سفيان سيد فتيان أهل الجنة أبو سفيان بن الحارث } . لما انكشف أول عسكر النبي صلى الله عليه وسلم قال
وقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ : { عبد المطلب } . أنا النبي لا كذب ، أنا ابن
وقوله عليه الصلاة والسلام غفر الله له كل عداوة عادانيها ; لأنه كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم وهجاه ، وهو الذي رد عليه لأبي سفيان بن الحارث حسان في قوله : ألا أبلغ عني مغلغلة فقد برح الخفاء بأن سيوفنا تركتك عبدا أبا سفيان
وعبد الدار سادتها الإماء [ ص: 336 ] فلما كان عام الفتح { رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سفيان بن الحارث بالأبواء وابن له وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ابن عمته وصهره ، والتمسا الدخول عليه فلم يؤذن لهما ، فكلمته فيهما فقالت يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك لا يكونا أشقى الناس بك قال لا حاجة لي بهما ، أما ابن عمي فهتك عرضي فإنه كان شديد الأذية لرسول الله كثير الهجو له مع أنه كان قبل البعثة آلف الناس إليه ، قال : وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال أم سلمة بمكة ما قال أي لن نؤمن لك حتى تعرج إلى السماء في سلم ونحن ننظر وتأتي بصك وأربعة ملائكة يشهدون أنك رسول الله ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه كما أخبر الله عنه في سورة الإسراء فلما خرج الخبر إليهما بذلك ومع بني له ، فقال : والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا ثم نذهبن في الأرض حتى نموت عطشا وجوعا فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لهما رقا شديدا ثم أذن لهما فدخلا عليه ، وأسلما أبي سفيان } . لقي
وفي الهدي للإمام العلامة ابن القيم قدس الله روحه { أن رضوان الله عليه قال عليا رضي الله عنه ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف لأبي سفيان ليوسف عليهم السلام { تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين } فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن منه قولا ففعل ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم { أبو سفيان لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } فأنشده رضي الله عنه معتذرا : أبو سفيان
لعمرك إني يوم أحمل راية
لتغلب خيل اللات خيل محمد لك المدلج الحيران أظلم ليله
فهذا أواني حين أهدي وأهتدي هداني هاد غير نفسي ودلني
على الله من طردته كل مطرد أصد وأنأى جاهدا عن محمد
وأدعي كأن لم أنتسب من محمد همو ما همو من لم يقل بهواهمو
وإن كان ذا رأي يلم ويفسد أريد لأرضيهم ولست بلائط
مع القوم ما لم أهد في كل مقعد [ ص: 337 ] فقل لثقيف لا أريد قتالها
وقل لثقيف تلك عيري أوعد فما كنت في الجيش الذي نال عامرا
وما كان عن جري لساني ولا يدي قبائل جاءت من بلاد بعيدة
ترايع جاءت من سهام وسودد
قال في الهدي : ويقال إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه وشهد له بالجنة . كما ذكرنا وقال { : أرجو أن تكون خلفا من حمزة } .
ولما حضرته الوفاة رضي الله عنه بكى عليه أهله ، فقال : لا تبكوا علي فما نطقت بخطيئة منذ أسلمت . انتهى .