وأمرك بالمعروف والنهي يا فتى عن المنكر اجعل فرض عين تسدد ( وأمرك ) أيها المتخلق بأخلاق الشريعة ، المتحقق بأوصافها النفيسة [ ص: 211 ] الرفيعة ، الممتثل لأوامرها السديدة المنيعة ، المزدجر عن زواجرها الشديدة الفظيعة .
( بالمعروف ) وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه والإحسان إلى الناس بكل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات ، وهو من الصفات الغالبة ، أي أمر معروف بين الناس إذا رأوه لا ينكرونه . والمعروف النصف وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم من الناس ، والمنكر ضد ذلك جميعه .
وفي الحديث { } أي من بذل معروفه للناس في الدنيا آتاه الله جزاء معروفه في الآخرة . وقيل أراد من بذل جاهه لأصحاب الجرائم التي لا تبلغ الحدود فيشفع فيهم شفعه الله في أهل التوحيد في الآخرة . أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة
وروي عن رضي الله عنهما ما معناه قال : يأتي أصحاب المعروف في الدنيا يوم القيامة فيغفر لهم بمعروفهم وتبقى حسناتهم جامة فيعطونها لمن زادت سيئاته على حسناته فيغفر له ويدخل الجنة فيجتمع لهم الإحسان إلى الناس في الدنيا والآخرة ( والنهي ) وهو ضد الأمر . فمن صيغ الأمر : أقم الصلاة ، صم رمضان ، استعمل الخيرات ، أد السنن الرواتب . ابن عباس
ومن صيغ النهي : لا تشرب الخمر ، لا تقتل النفس ، لا تزن ، لا تلط ، لا تأكلوا أموال الناس بالباطل ، لا تطلق بصرك في حرم المسلمين ، إلى ما لا نهاية ( يا فتى ) تقدم أنه الشاب والسخي الكريم جمعه فتيان وفتوة ( عن ) مقارنة الشيء ( المنكر ) ضد المعروف ( اجعل ) أي اعتقد واتخذ ( فرض عين ) أي لازم على كل أحد بعينه والفرض في اللغة التقدير كقوله تعالى { فنصف ما فرضتم } والتأثير كفرض الحبل الحجر .
قال الجوهري : الفرض الحز في الشيء كالقوس موقع الوتر . والإلزام ومنه قوله تعالى { سورة أنزلناها وفرضناها } أي أوجبنا العمل بها . والإنزال لقوله تعالى { إن الذي فرض عليك القرآن } أي أنزله عليك . وفي الشرع يرادف الواجب ، فهو ما يذم شرعا تاركه قصدا مطلقا وهو المطلوب مع جزم . ثم هو قسمان فرض عين كالصلوات الخمس وصوم رمضان ونحوهما فلا يسقط [ ص: 212 ] عنه بفعل غيره .
والقسم الثاني : فرض كفاية ويأتي في كلام الناظم . وقد يصير فرض الكفاية فرض عين كما نبه عليه الناظم . وقوله ( تسدد ) مجزوم في جواب الطلب من قوله اجعل كقوله { قل تعالوا أتل } وقول امرئ القيس :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
والتسديد التقويم والتوفيق للسداد ، أي الصواب من القول والعمل ، والتوفيق خلق القدرة على الطاعة في العبد ، والخذلان ضدها .
على عالم بالحظر والفعل لم يقم سواه مع أمن عدوان معتد
( على عالم ) متعلق بفرض عين ( بالحظر ) أي المنع والحرمة ، والجار والمجرور متعلق بعالم ( والفعل ) أي والحال أن الفعل ( لم يقم ) أي لم يقدر على الإقامة ( سواه ) أي غير ذلك بالعالم بالحظر ( به ) أي بالفعل الذي هو إزالة ذلك المحظور الذي هو المنكر فيه متعلق بيقم ، وجملة ( والفعل لم يقم به ) إلخ جملة حالية ، وإنما يجعل في حقه فرض عين حيث علم بالحظر ولم يقم به سواه ، ولا بد أن يكون ( مع أمن ) من ضرر في نفسه أو ماله أو حرمته أو أهله ، فإن لم يوجد أمن ( عدوان معتد ) أي ظلم ظالم .
قال في القاموس : عدا عليه عدوا وعدوا وعداء وعدوانا بالضم والكسر وعدوى بالضم : ظلمه كتعدى واعتدى .
قال في الآداب الكبرى : الأمر بالمعروف وهو كل ما يؤمر به شرعا ، والنهي عن المنكر وهو كل ما ينهى عنه شرعا ، فرض عين على من علمه جزما وشاهده وعرف ما ينكر ولم يخف سوطا ولا عصى ولا أذى . زاد في الرعاية الكبرى : يزيد على المنكر أو يساويه ، ولا فتنة في نفسه أو ماله أو حرمته أو أهله .
وأطلق القاضي وغيره سقوطه بخوف الضرر والحبس وأخذ المال ، وإنه ظاهر . نقل ابن هانئ في إسقاطه بالعصا خلافا للمعتزلة ، وأسقطه أيضا بأخذ المال اليسير لا بالتوهم . فلو وأبي بكر الباقلاني لم يسقط عنه لذلك . قيل له لا تأمر على فلان بالمعروف فإنه يقتلك
[ ص: 213 ] وقال في آخر الإرشاد : من ابن عقيل أن يعلم أو يغلب على ظنه أنه لا يفضي إلى مفسدة . وحكي عنه في الفروع أنه قال في الفنون : من أعظم منافع الإسلام وآكد قواعد الأديان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتناصح ، فهذا أشق ما يحمله المكلف لأنه مقام الرسل حيث ينقل صاحبه عن الطباع ، وتنفر منه نفوس أهل اللذات ، وتمقته أهل الخلاعة وهو إحياء للسنن وإماتة للبدع ، إلى أن قال : لو سكت المحقون ونطق المبطلون لتعود النشء ما شاهدوا ، وأنكروا ما لم يشاهدوا . شروط الإنكار
فمتى رام المتدين إحياء سنة أنكرها الناس فظنوها بدعة ، وقد رأينا ذلك ، فالقائم بها يعد مبتدعا ومبدعا ، كمن بنى مسجدا ساذجا ، أو كتب مصحفا بلا زخرف أو صعد منبرا فلم يتسود ولم يدق سيف مراقي المنبر ، ولم يصعد على علم ولا منارة ، ولا ينشر علما .
فالويل له من مبتدع عندهم ، أو أخرج ميتا له بغير صراخ ولا تخريق ، ولا قرأ ولا ذكر صحابة على النعش ولا قرابة . انتهى .
فالبدعة صارت مألوفة ، والسنن منكرة غير معروفة ، فيحتاج الآمر الناهي إلى مزيد صبر وتسليم ، واستعانة بالعزيز الحليم .
قال الإمام رضي الله عنه في رواية جماعة : إذا أحمد فلا ترفعه إلى السلطان ليعدى عليه . فقد نهى عن ذلك . وقال أيضا : من شرطه أن يأمن على نفسه وماله خوف التلف ، وكذا قال جمهور العلماء . أمرت أو نهيت فلم ينته
وفي الحديث الشريف { } رواه الإمام لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه ، قيل كيف يذل نفسه ؟ قال يتعرض من البلاء ما لا يطيق أحمد وابن ماجه والترمذي وقال حسن صحيح من حديث مرفوعا . حذيفة
وحكى القاضي عياض من المالكية عن بعضهم وجوب الإنكار مطلقا في هذه الحال وغيرها . وفي الآداب الكبرى : وقيل إن زاد يعني الأذى على المنكر وجب الكف ، وإن تساويا سقط الإنكار يعني وجوبه .
قال الإمام ابن الجوزي : فأما السب والشتم فليس بعذر في السكوت لأن الآمر بالمعروف يلقى ذلك في الغالب . وظاهر كلام غيره أنه عذر لأنه أذى ، ولهذا يكون تأديبا وتعزيرا ، وقد قال له يعني للإمام رضي الله عنه [ ص: 214 ] أحمد أبو داود يشتم ، قال يحتمل من يريد أن يأمر وينهى لا يريد أن ينتصر بعد ذلك .
قال الإمام شيخ الإسلام قدس الله روحه : ، إن لم يستعمل لزم أحد أمرين ، إما تعطيل الأمر والنهي ، وإما حصول فتنة ومفسدة أعظم من مفسدة ترك الأمر والنهي أو مثلها أو قريبا منها ، وكلاهما معصية وفساد . الصبر على أذى الخلق عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال تعالى { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } فمن أمر ولم يصبر ، أو صبر ولم يأمر ، أو لم يأمر ولم يصبر ، حصل من هذه الأقسام الثلاثة مفسدة ، وإنما الصلاح في أن يأمر ويصبر .
وفي الصحيحين عن رضي الله عنه قال : { عبادة } . بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في يسرنا وعسرنا ، ومنشطنا ومكرهنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا ، لا نخاف في الله لومة لائم