[ ص: 161 ] باب ما ورد في آدم عليه السلام خلق
قال الله تعالى : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ البقرة : 30 - 31 ] . وقال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون [ آل عمران : 59 ] .
[ ص: 162 ] وقال تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا [ النساء : 1 ] . كما قال : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير [ الحجرات : 13 ] . وقال تعالى : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها [ الأعراف : 189 ] . الآية . [ ص: 163 ] وقال تعالى : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون [ الأعراف : 11 - 25 ] . [ ص: 163 ] كما قال في الآية الأخرى : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى [ طه : 55 ] . وقال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ الحجر 26 - 44 ] .
وقال تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا [ الإسراء : 61 - 65 ] . [ ص: 164 ] وقال تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا [ الكهف : 50 ] . وقال تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ طه : 115 - 126 ] .
[ ص: 165 ] وقال تعالى : قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين [ ص : 67 - 88 ] .
فهذا ذكر هذه القصة من مواضع متفرقة من القرآن ، وقد تكلمنا على ذلك كله في التفسير . ولنذكر هاهنا مضمون ما دلت عليه هذه الآيات الكريمات ، وما يتعلق بها من الأحاديث الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله المستعان .
فأخبر تعالى أنه خاطب الملائكة قائلا لهم : إني جاعل في الأرض خليفة . أعلم بما يريد أن يخلق من آدم وذريته الذين يخلف بعضهم بعضا ، كما قال : وهو الذي جعلكم خلائف الأرض [ الأنعام : 165 ] . وقال : ويجعلكم خلفاء الأرض [ النمل : 62 ] . فأخبرهم بذلك على سبيل التنويه بخلق آدم وذريته ، كما يخبر بالأمر العظيم قبل كونه . فقالت الملائكة سائلين على وجه الاستكشاف والاستعلام عن وجه الحكمة لا [ ص: 166 ] على وجه الاعتراض والتنقص لبني آدم والحسد لهم ، كما قد يتوهمه بعض جهلة المفسرين : قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء . قيل : علموا أن ذلك كائن بما رأوا ممن كان قبل آدم من الحن والبن . قاله قتادة .
وقال عبد الله بن عمر كانت الحن والبن قبل آدم بألفي عام ، فسفكوا الدماء فبعث الله إليهم جندا من الملائكة فطردوهم إلى جزائر البحور ، وعن ابن عباس نحوه ، وعن الحسن ألهموا ذلك . وقيل : لما اطلعوا عليه من اللوح المحفوظ . فقيل : أطلعهم عليه هاروت وماروت عن ملك فوقهما يقال له : السجل . رواه ابن أبي حاتم ، عن . وقيل : لأنهم علموا أن الأرض لا يخلق منها إلا من يكون بهذه المثابة غالبا . أبي جعفر الباقر ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك . أي : نعبدك دائما لا يعصيك منا أحد ، فإن كان المراد بخلق هؤلاء أن يعبدوك فها نحن لا نفتر ليلا ولا نهارا . قال إني أعلم ما لا . أي : أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هؤلاء ما لا تعلمون . أي : سيوجد منهم الأنبياء والمرسلون ، والصديقون ، والشهداء . ثم بين لهم شرف آدم عليهم في العلم فقال : وعلم آدم الأسماء كلها . قال ابن عباس : هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس ; إنسان ، ودابة ، وأرض ، وسهل ، وبحر ، وجبل ، وجمل ، وحمار ، [ ص: 167 ] وأشباه ذلك من الأمم وغيرها . وفي رواية : علمه اسم الصحفة ، والقدر حتى الفسوة والفسية . وقال مجاهد : علمه اسم كل دابة ، وكل طير ، وكل شيء .
وكذا قال سعيد بن جبير ، وقتادة ، وغير واحد . وقال الربيع : علمه أسماء الملائكة . وقال عبد الرحمن بن زيد : علمه أسماء ذريته . والصحيح أنه علمه أسماء الذوات ، وأفعالها مكبرها ومصغرها ، كما أشار إليه ابن عباس رضي الله عنهما ، وذكر هنا ما رواه هو ، البخاري ومسلم من طريق سعيد ، وهشام ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : آدم فيقولون أنت أبو البشر خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء . وذكر تمام الحديث يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . قال لما أراد الله خلق الحسن البصري آدم ، قالت الملائكة : لا يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه . فابتلوا بهذا . وذلك قوله : إن كنتم صادقين . وقيل : غير ذلك ، كما بسطناه في التفسير قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم . أي : سبحانك أن يحيط أحد بشيء من علمك من غير تعليمك ، [ ص: 168 ] كما قال : ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء [ البقرة : 255 ] . قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون . أي أعلم السر كما أعلم العلانية . وقيل : إن المراد بقوله : وأعلم ما تبدون . ما قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها . وبقوله : وما كنتم تكتمون . المراد بهذا الكلام إبليس وما أسره وكتمه في نفسه من الكبر والعداوة لآدم عليه السلام . قاله سعيد بن جبير ، ومجاهد ، ، والسدي والضحاك ، ، واختاره والثوري ابن جرير . وقال أبو العالية ، والربيع ، والحسن ، وقتادة : وما كنتم تكتمون . قولهم : لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه ، وأكرم عليه منه . قوله : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر . هذا إكرام عظيم من الله تعالى لآدم حين خلقه بيده ونفخ فيه من روحه ، كما قال : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين [ الحجر : 29 ] . فهذه خلقه له بيده الكريمة ، ونفخه فيه من روحه ، وأمره الملائكة بالسجود له ، وتعليمه أسماء الأشياء ، ولهذا قال له أربع تشريفات موسى الكليم حين اجتمع هو وإياه في الملأ الأعلى ، وتناظرا ، كما سيأتي : أنت آدم أبو البشر الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء . وهكذا يقول له أهل المحشر يوم القيامة ، كما تقدم ، وكما سيأتي إن شاء الله تعالى .
[ ص: 169 ] وقال في الآية الأخرى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ الأعراف : 11 - 12 ] . قال : قاس إبليس ، وهو أول من قاس . وقال الحسن البصري : أول من قاس إبليس ، وما عبدت الشمس ولا القمر إلا بالمقاييس . رواهما محمد بن سيرين . ومعنى هذا أنه نظر نفسه بطريق المقايسة بينه وبين ابن جريج آدم فرأى نفسه أشرف من آدم فامتنع من السجود له ، مع وجود الأمر له ولسائر الملائكة بالسجود ، والقياس إذا كان مقابلا بالنص كان فاسد الاعتبار ، ثم هو فاسد في نفسه فإن الطين أنفع وخير من النار فإن الطين فيه ; الرزانة ، والحلم ، والأناة ، والنمو ، والنار فيها ; الطيش ، والخفة ، والسرعة ، والإحراق . ثم آدم شرفه الله بخلقه له بيده ، ونفخه فيه من روحه ، ولهذا أمر الملائكة بالسجود له ، كما قال : وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين [ الحجر : 28 - 35 ] . استحق هذا من الله تعالى ; لأنه استلزم تنقصه لآدم وازدراؤه به [ ص: 170 ] وترفعه عليه مخالفة الأمر الإلهي ، ومعاندة الحق في النص على آدم على التعيين ، وشرع في الاعتذار بما لا يجدي عنه شيئا ، وكان اعتذاره أشد من ذنبه ، كما قال تعالى في سورة سبحان : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا [ الإسراء : 61 - 65 ] .
وقال في سورة الكهف : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه [ الكهف : 50 ] . أي : خرج عن طاعة الله عمدا وعنادا واستكبارا عن امتثال أمره ، وما ذاك إلا لأنه خانه طبعه ومادته النارية الخبيثة أحوج ما كان إليها . فإنه مخلوق من نار ، كما قال . وكما قدمنا في صحيح مسلم ، عن عائشة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ، وخلق وخلقت الجان من مارج من نار آدم مما وصف لكم . خلقت الملائكة من نور ،
قال : لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين قط . وقال الحسن البصري : كان من الجن فلما أفسدوا في الأرض بعث الله إليهم جندا من الملائكة فقتلوهم ، وأجلوهم إلى جزائر البحار ، وكان إبليس ممن أسر فأخذوه معهم إلى السماء فكان هناك فلما أمرت الملائكة بالسجود امتنع إبليس [ ص: 171 ] منه . وقال شهر بن حوشب ابن مسعود ، ، وجماعة من الصحابة ، وابن عباس ، وآخرون : كان إبليس رئيس الملائكة بالسماء الدنيا . قال وسعيد بن المسيب ابن عباس : وكان اسمه عزازيل . وفي رواية عنه : الحارث . قال النقاش : وكنيته أبو كردوس . قال ابن عباس : وكان من حي من الملائكة يقال لهم : الحن ، وكانوا خزان الجنان ، وكان من أشرفهم ، وأكثرهم علما وعبادة ، وكان من أولى الأجنحة الأربعة ، فمسخه الله شيطانا رجيما . وقال في سورة ص : إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ ص : 71 - 85 ] . وقال في سورة الأعراف : قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ الأعراف : 16 - 17 ] . أي : بسبب إغوائك إياي لأقعدن لهم كل مرصد ، ولآتينهم من كل جهة منهم . فالسعيد من خالفه ، والشقي من اتبعه .
كما قال : حدثنا الإمام أحمد ، حدثنا أبو هاشم بن القاسم عقيل هو [ ص: 172 ] عبد الله بن عقيل الثقفي ، حدثنا موسى بن المسيب ، عن ، عن سالم بن أبي الجعد سبرة بن أبي الفاكه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : آدم بأطرقه . وذكر الحديث كما قدمناه في صفة إبليس . إن الشيطان يقعد لابن
وقد اختلف المفسرون في لآدم ، أهم جميع الملائكة ؟ كما دل عليه عموم الآيات ، وهو قول الجمهور ، أو المراد بهم ملائكة الأرض ؟ كما رواه الملائكة المأمورين بالسجود ابن جرير من طريق الضحاك ، عن ابن عباس ، وفيه انقطاع ، وفي السياق نكارة ، وإن كان بعض المتأخرين قد رجحه ، ولكن الأظهر من السياقات الأول ، ويدل عليه الحديث : . وهذا عموم أيضا ، والله أعلم . وأسجد له ملائكته
وقوله تعالى لإبليس : فاهبط منها واخرج منها دليل على أنه كان في السماء ، فأمر بالهبوط منها والخروج من المنزلة والمكانة التي كان قد نالها بعبادته وتشبهه بالملائكة في الطاعة والعبادة ، ثم سلب ذلك بكبره وحسده ومخالفته لربه ، فأهبط إلى الأرض مذءوما مدحورا ، وأمر الله آدم عليه السلام أن يسكن هو وزوجته الجنة ، فقال : وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [ البقرة : 35 ] . وقال في الأعراف : قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [ الأعراف : 18 - 19 ] . [ ص: 173 ] وقال تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ طه : 116 - 119 ] . وسياق هذه الآيات يقتضي أن كان قبل دخول آدم الجنة لقوله : خلق حواء ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة . وهذا قد صرح به ابن إسحاق بن يسار ، وهو ظاهر هذه الآيات .
ولكن حكى ، عن السدي أبي صالح ، وأبي مالك ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة أنهم قالوا : أخرج إبليس من الجنة ، وأسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وحشا ، ليس له فيها زوج يسكن إليها فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه ، فسألها من أنت ؟ قالت : امرأة . قال : ولما خلقت؟ . قالت : لتسكن إلي . فقالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه : ما اسمها يا آدم . قال : حواء . قالوا : ولم كانت حواء ؟ قال : لأنها خلقت من شيء حي . وذكر محمد بن إسحاق ، عن ابن عباس : أنها خلقت من ضلعه الأقصر الأيسر وهو نائم ، ولأم مكانه لحما . ومصداق هذا في قوله تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ النساء : 1 ] . الآية ، وفي قوله تعالى : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به [ الأعراف : 189 ] . [ ص: 174 ] الآية . وسنتكلم عليها فيما بعد إن شاء الله تعالى .
وفي الصحيحين من حديث زائدة ، عن ميسرة الأشجعي ، عن أبي حازم ، عن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبي هريرة . لفظ استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء خيرا . البخاري
وقد اختلف المفسرون في ولا تقربا هذه الشجرة . فقيل هي الكرم . وروى عن قوله تعالى : ابن عباس ، ، وسعيد بن جبير ، والشعبي وجعدة بن هبيرة ، ومحمد بن قيس ، في رواية ، عن والسدي ابن عباس ، ، وناس من الصحابة قال : وتزعم وابن مسعود يهود أنها الحنطة . وهذا مروي عن ابن عباس ، والحسن البصري ، ، ووهب بن منبه ، وعطية العوفي وأبي مالك ، ، ومحارب بن دثار . قال وعبد الرحمن بن أبي ليلى وهب : والحبة منه ألين من الزبد ، وأحلى من العسل . وقال الثوري ، عن حصين ، عن أبي مالك : ولا تقربا هذه الشجرة . هي النخلة . وقال ، عن ابن جريج مجاهد : هي التينة . وبه قال قتادة ، وابن [ ص: 175 ] جريج . وقال أبو العالية : كانت شجرة من أكل منها أحدث ، ولا ينبغي في الجنة حدث .
وهذا الخلاف قريب . وقد أبهم الله ذكرها وتعيينها ، ولو كان في ذكرها مصلحة تعود إلينا لعينها لنا ، كما في غيرها من المحال التي تبهم في القرآن .
وإنما الخلاف الذي ذكروه في أن هذه آدم ، هل هي في السماء أو في الأرض ؟ هو الخلاف الذي ينبغي فصله والخروج منه . والجمهور على أنها هي التي في السماء ، وهي جنة المأوى ، لظاهر الآيات والأحاديث كقوله تعالى : الجنة التي أسكنها وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة [ البقرة : 175 ] . والألف واللام ليست للعموم ، ولا لمعهود لفظي ، وإنما تعود على معهود ذهني ، وهو المستقر شرعا من جنة المأوى ، وكقول موسى عليه السلام لآدم عليه السلام : . الحديث . كما سيأتي الكلام عليه . وروى علام أخرجتنا ونفسك من الجنة مسلم في صحيحه من حديث ، واسمه أبي مالك الأشجعي سعد بن طارق ، عن ، عن أبي حازم سلمة بن دينار ، أبي هريرة وأبو مالك ، عن ربعي ، عن حذيفة قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : آدم فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم ! . وذكر الحديث بطوله ، وهذا فيه قوة جيدة ظاهرة في الدلالة على أنها جنة المأوى ، وليست تخلو عن نظر . يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنة فيأتون
[ ص: 176 ] وقال آخرون بل آدم لم تكن جنة الخلد ; لأنه كلف فيها أن لا يأكل من تلك الشجرة ، ولأنه نام فيها وأخرج منها ، ودخل عليه إبليس فيها ، وهذا مما ينافي أن تكون جنة المأوى . وهذا القول محكي ، عن الجنة التي أسكنها أبي بن كعب ، ، وعبد الله بن عباس ، ووهب بن منبه . واختاره وسفيان بن عيينة في المعارف ، ابن قتيبة والقاضي منذر بن سعيد البلوطي في تفسيره ، وأفرد له مصنفا على حدة ، وحكاه عن أبي حنيفة الإمام وأصحابه رحمهم الله . ونقله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي ابن خطيب الري في تفسيره عن أبي القاسم البلخي ، وأبي مسلم الأصبهاني . ونقله القرطبي في تفسيره عن المعتزلة ، والقدرية . وهذا القول هو نص التوراة التي بأيدي أهل الكتاب . وممن حكى الخلاف في هذه المسألة أبو محمد بن حزم في " الملل والنحل " وأبو محمد بن عطية في تفسيره ، وأبو عيسى الرماني في تفسيره .
وحكى عن الجمهور الأول ، ، وأبو القاسم الراغب في تفسيره فقال : واختلف في الجنة التي أسكناها يعني والقاضي الماوردي آدم وحواء على قولين ; أحدهما : أنها جنة الخلد . الثاني : جنة أعدها الله لهما ، وجعلها دار ابتلاء ، وليست جنة الخلد التي جعلها دار جزاء . ومن قال : بهذا اختلفوا على قولين ; أحدهما : أنها في السماء ، لأنه أهبطهما منها . وهذا قول الحسن ، والثاني : [ ص: 177 ] أنها في الأرض ، لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار . وهكذا قول ، وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود ابن جبير لآدم ، والله أعلم بالصواب من ذلك ، هذا كلامه .
فقد تضمن كلامه حكاية أقوال ثلاثة ، وأشعر كلامه أنه متوقف في المسألة ، ولهذا حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره في هذه المسألة أربعة أقوال ، هذه الثلاثة التي أوردها ورابعها : الوقف . ورجح القول الأول . والله أعلم . وحكى القول بأنها في السماء وليست جنة المأوى عن الماوردي . أبي علي الجبائي
وقد أورد أصحاب القول الثاني سؤالا يحتاج مثله إلى جواب فقالوا : لا شك أن الله سبحانه وتعالى طرد إبليس حين امتنع من السجود عن الحضرة الإلهية ، وأمره بالخروج عنها والهبوط منها ، وهذا الأمر ليس من الأوامر الشرعية بحيث يمكن مخالفته ، وإنما هو أمر قدري لا يخالف ولا يمانع ، ولهذا قال : اخرج منها مذءوما مدحورا [ الأعراف : 18 ] . وقال : اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها [ الأعراف : 13 ] . وقال : اخرج منها فإنك رجيم [ الحجر : 34 ] . والضمير عائد إلى الجنة أو السماء أو المنزلة ، وأيا ما كان ، فمعلوم أنه ليس له الكون بعد هذا في المكان الذي طرد عنه ، وأبعد منه لا على سبيل الاستقرار ، ولا على سبيل المرور والاجتياز . قالوا : ومعلوم من ظاهر سياقات القرآن أنه وسوس [ ص: 178 ] لآدم وخاطبه بقوله له : هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى [ طه : 120 ] . وبقوله : ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور [ الأعراف : 20 21 ] . الآية ، وهذا ظاهر في اجتماعه معهما في جنتهما ، وقد أجيبوا عن هذا بأنه لا يمتنع أن يجتمع بهما في الجنة على سبيل المرور فيها لا على سبيل الاستقرار بها ، أو أنه وسوس لهما وهو على باب الجنة ، أو من تحت السماء . وفي الثلاثة نظر ، والله أعلم .
ومما احتج به أصحاب هذه المقالة ما رواه في الزيادات عن عبد الله بن الإمام أحمد هدبة بن خالد ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن ، عن الحسن البصري عتي هو ابن ضمرة السعدي ، عن أبي بن كعب قال : إن آدم لما احتضر اشتهى قطفا من عنب الجنة ، فانطلق بنوه ليطلبوه له ، فلقيتهم الملائكة فقالوا : أين تريدون يا بني آدم ؟ فقالوا : إن أبانا اشتهى قطفا من عنب الجنة . فقالوا لهم : ارجعوا فقد كفيتموه فانتهوا إليه فقبضوا روحه ، وغسلوه ، وحنطوه ، وكفنوه ، وصلى عليه جبريل وبنوه خلف الملائكة ، ودفنوه . وقالوا : هذه سنتكم في موتاكم . وسيأتي الحديث بسنده ، وتمام لفظه عند ذكر وفاة آدم عليه السلام . قالوا : فلولا أنه كان الوصول إلى الجنة التي كان فيها آدم التي اشتهى منها القطف ممكنا لما ذهبوا يطلبون ذلك ، فدل على أنها في الأرض لا في السماء ، والله تعالى أعلم .
قالوا : والاحتجاج بأن الألف واللام في قوله : ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة . [ ص: 179 ] لم يتقدم عهد يعود عليه ، فهو المعهود الذهني مسلم ، ولكن هو ما دل عليه سياق الكلام فإن آدم خلق من الأرض ، ولم ينقل أنه رفع إلى السماء . وخلق ليكون في الأرض ، وبهذا أعلم الرب الملائكة حيث قال : إني جاعل في الأرض خليفة .
قالوا : وهذا كقوله تعالى : إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة [ القلم : 17 ] . فالألف واللام ليس للعموم ، ولم يتقدم معهود لفظي ، وإنما هي للمعهود الذهني الذي دل عليه السياق وهو البستان .
قالوا : وذكر الهبوط لا يدل على النزول من السماء . قال الله تعالى : قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك [ هود : 48 ] . الآية . وإنما كان في السفينة حين استقر على الجودي ونضب الماء عن وجه الأرض ، أمر أن يهبط إليها هو ومن معه مباركا عليه وعليهم . وقال الله تعالى : اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم [ البقرة : 61 ] . الآية . وقال تعالى : وإن منها لما يهبط من خشية الله [ البقرة : 74 ] . الآية . وفي الأحاديث واللغة من هذا كثير .
قالوا : ولا مانع ، بل هو الواقع ، أن الجنة التي أسكنها آدم كانت مرتفعة عن سائر بقاع الأرض ذات أشجار ، وثمار ، وظلال ، ونعيم ، ونضرة ، وسرور ، كما قال تعالى : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى [ طه : 118 ] . أي لا يذل باطنك بالجوع ، ولا ظاهرك بالعري : وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ طه : 119 ] . أي لا يمس باطنك حر الظمأ ، ولا ظاهرك حر الشمس ، ولهذا قرن بين هذا وهذا ، وبين هذا وهذا لما بينهما من المقابلة . فلما كان منه ما كان من أكله من الشجرة التي نهي عنها أهبط [ ص: 180 ] إلى أرض الشقاء ، والتعب ، والنصب ، والكدر ، والسعي ، والنكد ، والابتلاء ، والاختبار ، والامتحان ، واختلاف السكان ; دينا ، وأخلاقا ، وأعمالا ، وقصودا ، وإرادات ، وأقوالا ، وأفعالا ، كما قال تعالى : ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [ البقرة : 36 ] . ولا يلزم من هذا أنهم كانوا في السماء ، كما قال تعالى : وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا [ الإسراء : 204 ] . ومعلوم أنهم كانوا فيها لم يكونوا في السماء .
قالوا : وليس هذا القول مفرعا على قول من ينكر وجود الجنة والنار اليوم ، ولا تلازم بينهما ، فكل من حكي عنه هذا القول من السلف ، وأكثر الخلف ممن يثبت وجود الجنة والنار اليوم ، كما دلت عليه الآيات ، والأحاديث الصحاح ، كما سيأتي إيرادها في موضعها ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
وقوله تعالى : فأزلهما الشيطان عنها [ البقرة : 36 ] . أي : عن الجنة : فأخرجهما مما كانا فيه . أي : من النعيم والنضرة والسرور إلى دار التعب والكد والنكد ، وذلك بما وسوس لهما وزينه في صدورهما ، كما قال تعالى : فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين [ الأعراف : 20 ] . يقول : ما نهاكما عن أكل هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين . أي : ولو أكلتما منها لصرتما كذلك : وقاسمهما . أي : حلف لهما على ذلك : إني لكما لمن الناصحين [ الأعراف : 21 ] . [ ص: 181 ] كما قال في الآية الأخرى : فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى [ طه : 120 ] . أي : هل أدلك على الشجرة التي إذا أكلت منها حصل لك الخلد فيما أنت فيه من النعيم ، واستمررت في ملك لا يبيد ولا ينقضي ؟ وهذا من التغرير والتزوير والإخبار بخلاف الواقع والمقصود أن قوله : شجرة الخلد . التي إذا أكلت منها خلدت .
وقد تكون هي الشجرة التي قال : حدثنا الإمام أحمد عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شعبة ، عن أبي الضحاك ، سمعت يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبا هريرة . وكذا رواه أيضا عن إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ; شجرة الخلد غندر ، وحجاج ، عن شعبة . ورواه في مسنده ، عن أبو داود الطيالسي شعبة أيضا به .
قال غندر : قلت لشعبة : هي شجرة الخلد . قال : ليس فيها هي . تفرد به . الإمام أحمد
وقوله : فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة [ الأعراف : 22 ] . كما قال في طه : فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة . وكانت حواء أكلت من الشجرة قبل آدم ، وهي التي حدته على أكلها ، [ ص: 182 ] والله أعلم .
وعليه يحمل الحديث الذي رواه ، حدثنا البخاري بشر بن محمد ، حدثنا عبد الله ، أنبأنا معمر ، عن ، عن همام بن منبه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . تفرد به من هذا الوجه . وأخرجاه في الصحيحين من حديث لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم ، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن به . ورواه أحمد ، أبي هريرة ومسلم ، عن هارون بن معروف ، عن أبي وهب ، عن عمرو بن حارث ، عن أبي يونس ، عن . أبي هريرة
وفي كتاب التوراة التي بين أيدي أهل الكتاب أن الذي دل حواء على الأكل من الشجرة هي الحية ، وكانت من أحسن الأشكال ، وأعظمها فأكلت حواء عن قولها ، وأطعمت آدم عليه السلام ، وليس فيها ذكر لإبليس ، فعند ذلك انفتحت أعينهما ، وعلما أنهما عريانان فوصلا من ، ورق التين ، وعملا مآزر ، وفيها أنهما كانا عريانين ، وكذا قال كان لباسهما نورا على فرجه وفرجها . وهب بن منبه
وهذا الذي في هذه التوراة التي بأيديهم غلط منهم وتحريف وخطأ في التعريب ، فإن نقل الكلام من لغة إلى لغة لا يكاد يتيسر لكل أحد ، ولا سيما [ ص: 183 ] ممن لا يعرف كلام العرب جيدا ، ولا يحيط علما بفهم كتابه أيضا ، فلهذا وقع في تعريبهم لها خطأ كثير لفظا ومعنى ، وقد دل القرآن العظيم على أنه كان عليهما لباس في قوله : ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما . فهذا لا يرد لغيره من الكلام ، والله تعالى أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا ، حدثنا علي بن الحسن بن إشكاب ، عن علي بن عاصم ، عن سعيد بن أبي عروبة قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق ، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه ، فأول ما بدا منه عورته ، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة ، فأخذت شعره شجرة فنازعها ، فناداه الرحمن عز وجل : يا آدم مني تفر . فلما سمع كلام الرحمن قال : يا رب لا ، ولكن استحياء . وقال إن الله خلق الثوري ، عن ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة . قال : ورق التين . وهذا إسناد صحيح إليه ، وكأنه مأخوذ من أهل الكتاب ، وظاهر الآية يقتضي أعم من ذلك ، وبتقدير تسليمه فلا يضر ، والله تعالى أعلم .
وروى من طريق الحافظ ابن عساكر محمد بن إسحاق ، عن الحسن [ ص: 184 ] بن ذكوان ، عن ، عن الحسن البصري أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : آدم كان كالنخلة السحوق ستين ذراعا ، كثير الشعر ، موارى العورة ، فلما أصاب الخطيئة في الجنة بدت له سوءته ، فخرج من الجنة فلقيته شجرة فأخذت بناصيته ، فناداه ربه : أفرارا مني يا آدم . قال : بل حياء منك والله يا رب مما جئت به . ثم رواه من طريق إن أباكم ، عن سعيد بن أبي عروبة قتادة ، عن الحسن ، عن عتي بن ضمرة ، عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه . وهذا أصح ، فإن الحسن لم يدرك أبيا . ثم أورده أيضا من طريق ، عن خيثمة بن سليمان الطرابلسي محمد بن عبد الوهاب أبي قرصافة العسقلاني ، عن ، عن آدم بن أبي إياس شيبان ، عن قتادة ، عن أنس مرفوعا بنحوه .
وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [ الأعراف : 22 - 23 ] . وهذا اعتراف ، ورجوع إلى الإنابة ، وتذلل وخضوع ، واستكانة وافتقار إليه تعالى في الساعة الراهنة . وهذا السر ما سرى في أحد من ذريته إلا كانت عاقبته إلى خير في دنياه وأخراه .
قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [ الأعراف : 24 ] . وهذا خطاب لآدم وحواء وإبليس . [ ص: 185 ] قيل : والحية معهم . أمروا أن يهبطوا من الجنة في حال كونهم متعادين متحاربين ، وقد يستشهد لذكر الحية معهما بما ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل الحيات . وقال . ما سالمناهن منذ حاربناهن
وقوله في سورة طه : قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو [ طه : 123 ] . هو أمر لآدم وإبليس وما تناسل منهما عداوة مستمرة ، واستتبع آدم حواء ، وإبليس الحية . وقيل : هو أمر لهم بصيغة التثنية . كما في قوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين [ الأنبياء : 78 ] . والصحيح أن هذا لما كان الحاكم لا يحكم إلا بين اثنين مدع ومدعى عليه . قال : وكنا لحكمهم شاهدين . وأما تكريره الإهباط في سورة البقرة في قوله : وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ البقرة : 36 39 ] . فقال بعض المفسرين : المراد بالإهباط [ ص: 186 ] الأول الهبوط من الجنة إلى السماء الدنيا ، وبالثاني من السماء الدنيا إلى الأرض . وهذا ضعيف لقوله في الأول : وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين . فدل على أنهم أهبطوا إلى الأرض بالإهباط الأول ، والله أعلم .
والصحيح أنه كرره لفظا ، وإن كان واحدا ، وناط مع كل مرة حكما ; فناط بالأول : عداوتهم فيما بينهم ، وبالثاني : الاشتراط عليهم أن من تبع هداه الذي ينزله عليهم بعد ذلك هو السعيد ، ومن خالفه فهو الشقي ، وهذا الأسلوب في الكلام له نظائر في القرآن الحكيم .
وروى ، عن الحافظ ابن عساكر مجاهد قال : أمر الله ملكين أن يخرجا آدم وحواء من جواره ، فنزع جبريل التاج عن رأسه ، وحل ميكائيل الإكليل عن جبينه ، وتعلق به غصن فظن آدم أنه قد عوجل بالعقوبة فنكس رأسه يقول : العفو العفو ، فقال الله سبحانه : فرارا مني يا آدم . قال : بل حياء منك يا سيدي . وقال الأوزاعي ، عن : مكث حسان هو ابن عطية آدم في الجنة مائة عام ، وفي رواية ستين عاما ، وبكى على الجنة سبعين عاما ، وعلى خطيئته سبعين عاما ، وعلى ولده حين قتل أربعين عاما . رواه . ابن عساكر
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة جرير ، عن عطاء ، عن سعيد ، عن ابن عباس قال : أهبط آدم [ ص: 187 ] عليه السلام إلى أرض يقال لها دحنا بين مكة والطائف . وعن الحسن قال : أهبط آدم بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس بدستميسان من البصرة على أميال ، وأهبطت الحية بأصبهان . رواه ابن أبي حاتم أيضا . وقال السدي : نزل آدم بالهند ، ونزل معه بالحجر الأسود وبقبضة من ورق الجنة ، فبثه في الهند فنبتت شجرة الطيب هناك . وعن ابن عمر قال : أهبط آدم بالصفا ، وحواء بالمروة . رواه ابن أبي حاتم أيضا .
وقال عبد الرزاق : قال معمر : أخبرني عوف ، عن قسامة بن زهير ، عن قال : إن الله حين أهبط أبي موسى الأشعري آدم من الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شيء ، وزوده من ثمار الجنة . فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير ، وتلك لا تتغير . وقال في مستدركه : أنبأنا الحاكم ، عن أبو بكر بن بالويه محمد بن أحمد بن النضر ، عن معاوية بن عمرو ، عن زائدة ، عن عمار بن أبي معاوية البجلي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس . ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . ما أسكن
وفي صحيح مسلم من حديث الزهري ، عن ، عن أبي [ ص: 188 ] هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الأعرج آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها . وفي الصحيح من وجه آخر : خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ; فيه خلق . وقال أحمد : حدثنا وفيه تقوم الساعة محمد بن مصعب ، حدثنا الأوزاعي ، عن أبي عمار ، عن عبد الله بن فروخ ، عن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، وفيه تقوم الساعة . وإسناده على شرط خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ; فيه خلق مسلم .
فأما الحديث الذي رواه من طريق ابن عساكر ، حدثنا أبي القاسم البغوي محمد بن جعفر الوركاني ، حدثنا سعيد بن ميسرة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هبط آدم وحواء عريانين جميعا عليهما ورق الجنة ، فأصابه الحر حتى قعد يبكي ، ويقول لها : يا حواء قد أذاني الحر " قال : " فجاءه جبريل بقطن ، وأمرها أن تغزل ، وعلمها ، وأمر آدم بالحياكة ، وعلمه أن ينسج . وقال : كان آدم لم يجامع امرأته في الجنة حتى هبط منها للخطيئة التي أصابتهما بأكلهما من الشجرة " قال : " وكان كل واحد منهما ينام على حدة ينام أحدهما في البطحاء ، والآخر من ناحية أخرى حتى أتاه جبريل فأمره أن يأتي أهله " قال : " وعلمه كيف يأتيها ، فلما أتاها جاءه جبريل فقال : كيف وجدت امرأتك ؟ قال : صالحة " . فإنه حديث غريب ، ورفعه منكر جدا ، وقد يكون من كلام بعض السلف . وسعيد بن ميسرة هذا هو أبو عمران البكري البصري . قال فيه : [ ص: 189 ] منكر الحديث . وقال البخاري : يروي الموضوعات . وقال ابن حبان : مظلم الأمر . ابن عدي
وقوله : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم [ البقرة : 37 ] . قيل : هي قوله : ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [ الأعراف : 23 ] . روي هذا عن مجاهد ، ، وسعيد بن جبير ، وأبي العالية ، والربيع بن أنس والحسن ، وقتادة ، ، ومحمد بن كعب ، وخالد بن معدان وعطاء الخراساني ، . وقال وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ابن أبي حاتم : حدثنا ، حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب ، عن علي بن عاصم ، عن سعيد بن أبي عروبة قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال آدم عليه السلام : أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة . قال : نعم . فذلك قوله : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه . وهذا غريب من هذا الوجه ، وفيه انقطاع .
وقال ابن أبي نجيح : عن مجاهد قال : الكلمات : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين ، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الراحمين ، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم . وروى في [ ص: 190 ] مستدركه من طريق الحاكم سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه . قال : قال : آدم يا رب ألم تخلقني بيدك . قيل له : بلى . ونفخت في من روحك . قيل له : بلى . وعطست ، فقلت : يرحمك الله ، وسبقت رحمتك غضبك . قيل له : بلى . وكتبت علي أن أعمل هذا . قيل له : بلى . قال : أفرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة ؟ . قال : نعم . ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . الحاكم
وروى أيضا ، الحاكم ، والبيهقي من طريق وابن عساكر عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن جده ، عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : آدم الخطيئة قال : يا رب أسألك بحق محمد إلا غفرت لي . فقال الله : فكيف عرفت محمدا ولم أخلقه بعد . فقال : يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ، ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا : لا إله إلا الله محمد رسول الله . فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك . فقال الله : صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي ، وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك ، ولولا محمد ما خلقتك . قال لما اقترف تفرد به البيهقي عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من هذا الوجه ، وهو ضعيف ، والله أعلم . وهذه الآية كقوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ طه : 21 22 ] .