الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 182 ] ثم دخلت سنة إحدى عشرة ومائتين

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي من الأعيان :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أبو الجواب . وطلق بن غنام ، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني ، صاحب " المصنف " ، و " المسند " ، وعبد الله بن صالح العجلي ، وأبو العتاهية الشاعر المفلق المشهور ، واسمه إسماعيل بن القاسم بن سويد بن كيسان ، أصله من الحجاز ، وسكن بغداد وكان يبيع الجرار أولا ، ثم حظي عند الخلفاء لا سيما المهدي ، وقد كان يعشق جارية للمهدي اسمها عتبة وقد [ ص: 183 ] طلبها من الخليفة غير مرة ، فإذا سمح له بها لا تريده الجارية ، وتقول للخليفة : أتعطيني لرجل دميم الخلق كان يبيع الجرار ؟ فكان يكثر التغزل فيها ، وشاع أمره واشتهر بها ، وكان المهدي يفهم ذلك منه .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقد اتفق في بعض الأحيان أن الخليفة المهدي استدعى الشعراء إلى مجلسه فاجتمعوا ، وكان فيهم أبو العتاهية وبشار بن برد الأعمى ، فسمع صوت أبي العتاهية ، فقال بشار لجليسه : أثم هاهنا أبو العتاهية ؟ قال : نعم . فوجم لها بشار ، ثم استنشد المهدي أبا العتاهية . فانطلق ينشده قصيدته فيها ، التي أولها :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ألا ما لسيدتي ما لها أدلت فأحمل إدلالاها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال بشار لجليسه : ما رأيت أجسر من هذا . حتى انتهى أبو العتاهية إلى قوله :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      أتته الخلافة منقادة     إليه تجرر أذيالها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فلم تك تصلح إلا له     ولم يك يصلح إلا لها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولو رامها أحد غيره     لزلزلت الأرض زلزالها
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 184 ] ولو لم تطعه بنات القلوب لما قبل الله أعمالها

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فقال بشار لجليسه : انظر ويحك ، أطار الخليفة عن فراشه أم لا ؟ قال : فوالله ما خرج أحد من الشعراء يومئذ بجائزة غيره .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن خلكان : اجتمع أبو العتاهية بأبي نواس وكان في طبقته وطبقة بشار ، فقال أبو العتاهية لأبي نواس : كم تعمل في اليوم من الشعر ؟ قال : بيتا أو بيتين . فقال : لكني أعمل المائة والمائتين . فقال أبو نواس : لأنك تعمل مثل قولك :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      يا عتب ما لي ولك     يا ليتني لم أرك

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولو أردت مثل هذا الألف والألفين ، لقدرت عليه ، وأنا أعمل مثل قولي :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      من كف ذات حر في زي ذي ذكر     لها محبان لوطي وزناء

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولو أردت مثل هذا لأعجزك الدهر .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن خلكان : ومن لطيف شعر أبي العتاهية :


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولقد صبوت إليك حت     ى صار من فرط التصابي
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 185 ] يجد الجليس إذا دنا     ريح التصابي في ثيابي

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن خلكان : وأشعاره كثيرة ، وكان مولده سنة ثلاثين ومائة ، وتوفي يوم الاثنين ثالث جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وقيل : ثلاث عشرة ومائتين . وأوصى أن يكتب على قبره ببغداد :

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      إن عيشا يكون آخره الموت لعيش معجل التنغيص

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية