فيها محمد ابن أبي العباس السفاح عن أمر عمه المنصور إلى بلاد الديلم ، ومعه الجيوش من سار أهل الكوفة والبصرة وواسط والموصل والجزيرة .
وفيها قدم على أبيه من بلاد محمد المهدي ابن أبي جعفر المنصور خراسان ، ودخل بابنة عمه ريطة بنت السفاح بالحيرة .
وفيها حج بالناس أبو جعفر المنصور ، واستخلف على الميرة والعسكر خازم بن خزيمة ، وولى رياح بن عثمان المري المدينة ، وعزل عنها محمد بن خالد بن عبد الله القسري .
وتلقى الناس أبا جعفر المنصور في أثناء طريق مكة في حجه سنة أربعين ، فكان من جملة من تلقاه عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ، فأجلسه المنصور معه على السماط ، ثم جعل يحادثه ، وأقبل عليه إقبالا زائدا بحيث اشتغل بذلك عن عامة غدائه ، وسأله عن ابنيه; إبراهيم ومحمد : لم لا جاءاني مع الناس؟ فحلف عبد الله بن حسن أنه لا يدري أين صارا من أرض [ ص: 350 ] الله . وصدق في ذلك ، وما ذاك إلا أن محمد بن عبد الله بن حسن كان قد بايعه جماعة من أهل الحجاز في أواخر دولة مروان الحمار بالخلافة ، وخلع مروان ، وكان في جملة من بايعه على ذلك أبو جعفر المنصور ، وذلك قبل تحويل الدولة إلى بني العباس ، فلما صارت الخلافة إلى خاف أبي جعفر المنصور محمد بن عبد الله بن الحسن وأخوه إبراهيم منه خوفا شديدا; وذلك لأنه توهم منهما أن يخرجا عليه ، والذي خاف منه وقع فيه ، ولما خافاه ذهبا منه هربا في البلاد الشاسعة ، فصارا إلى اليمن ، ثم سارا إلى الهند ، ثم تحولا إلى المدينة فاختفيا بها ، فدل على مكانهما الحسن بن زيد ، فهربا إلى موضع آخر ، فاستدل عليه الحسن بن زيد ، فدل عليهما ثم كذلك ، وانتصب ألبا عليهما عند المنصور ، والعجب أنه من أتباعهما ، واجتهد المنصور بكل طريق على تحصيلهما ، فلم يتفق له ذلك إلى الآن ، فلما سأل أباهما عنهما حلف أنه لا يدري أين صارا إليه من البلاد ثم ألح المنصور على عبد الله في طلب ولديه ، فغضب عبد الله من ذلك ، وقال : والله لو كانا تحت قدمي ما دللتك عليهما . فغضب المنصور ، وأمر بسجنه وأمر ببيع رقيقه وأمواله ، ولبث في السجن ثلاث سنين ، وأشاروا على المنصور بحبس بني حسن عن آخرهم فحبسهم ، وجد في طلب إبراهيم ومحمد جدا ، هذا وهما يحضران الحج في غالب السنين ، ويكمنان في المدينة في غالب الأوقات ، ولا يشعر بهما من ينم عليهما ، ولله الحمد . والمنصور يعزل نائبا عن المدينة ويولي عليها غيره ، ويحرضه على إمساكهما والفحص عنهما ، وبذل الأموال في طلبهما ، وتعجزه المقادير في ذلك لما يريده الله عز وجل .
[ ص: 351 ] وقد واطأهما على أمرهما أمير من أمراء المنصور يقال له : أبو العساكر خالد بن حسان . فعزموا في بعض الحجات على الفتك بأبي جعفر المنصور بين الصفا والمروة ، فنهاهم عبد الله بن حسن لشرف البقعة . وقد اطلع المنصور على ذلك ، وعلم بما مالأهما ذلك الأمير ، فعذبه حتى أقر بما كانوا تمالئوا عليه من الفتك به . فقال : وما الذي صرفكم عن ذلك؟ فقال : عبد الله بن حسن نهانا عن ذلك . فأمر به الخليفة فغيب في الأرض ، فلم يظهر حتى الآن .
وقد استشار المنصور من يعلم من أمرائه ووزرائه من ذوي الرأي في أمر ابني عبد الله بن حسن ، وبعث الجواسيس والقصاد إليهما ، فلم يقع لهما على خبر ، ولا ظهر لهما على عين ولا أثر ، والله غالب على أمره .
وقد جاء محمد بن عبد الله بن حسن إلى أمه فقال : يا أمه ، إني قد شققت على أبي وعمومتي ، ولقد هممت أن أضع يدي في أيدي هؤلاء لأريح أهلي . فذهبت أمه إليهم إلى السجن ، فعرضت عليهم ما قال ابنها ، فقالوا : لا ، بل نصبر على أمره ، فلعل الله أن يفتح على يديه خيرا ، ونحن نصبر ، وفرجنا بيد الله . وتمالئوا كلهم على ذلك ، رحمهم الله .
وفي هذه السنة نقلوا من المدينة إلى حبس بالعراق وفي أرجلهم القيود ، وفي أعناقهم الأغلال . وكان ابتداء تقييدهم من الربذة بأمر وقد أشخص معهم أبي جعفر المنصور ، محمد بن عبد الله العثماني ، وكان أخا عبد الله بن حسن لأمه ، وكانت ابنته تحت إبراهيم بن عبد الله ، وقد حملت قريبا ، فاستحضره الخليفة ، فقال له : قد حلفت بالعتاق والطلاق إنك لم تغشني ، وهذه [ ص: 352 ] ابنتك حامل! فإن كان من زوجها فقد حنثت ، وإن كان من غيره فأنت ديوث . فأجابه العثماني بجواب أحفظه به ، فأمر به فجردت عنه ثيابه ، فإذا جسمه كأنه الفضة النقية ، ثم ضرب بين يدي الخليفة مائة وخمسين سوطا ، منها ثلاثون فوق رأسه ، أصاب أحدها عينه فسالت ، ثم رده إلى السجن وقد بقي كأنه عبد أسود من زرقة الضرب ، وتراكم الدماء فوق جلده ، فأجلس إلى جانب أخيه لأمه عبد الله بن حسن ، فاستسقى فما جسر أحد أن يسقيه حتى سقاه خراساني من جملة الجلاوزة الموكلين بهم ، ثم ركب الخليفة في هودجه ، وأركبوا أولئك في محامل ضيقة ، وعليهم القيود والأغلال فاجتاز بهم المنصور وهو في هودجه ، فناداه عبد الله بن حسن : والله يا أبا جعفر ما هكذا صنعنا بأسراكم يوم بدر . فأخسأه المنصور ، وتفل عليه ، ونفر عنهم . ولما انتهوا إلى العراق حبسوا بالهاشمية ، وكان فيهم محمد بن إبراهيم بن حسن ، وكان جميلا يذهب الناس لينظروا إليه من حسنه ، وكان يقال له : الديباج الأصفر . فأحضره المنصور بين يديه ، وقال له : أما والله لأقتلنك قتلة ما قتلها أحد . ثم ألقاه بين أسطوانتين ، وسد عليه حتى مات . وقد هلك كثير منهم في السجن حتى فرج عنهم فيما بعد على ما سنذكره .
فكان فيمن هلك في السجن عبد الله بن حسن ، وقد قيل وهو الأظهر : إنه قتل صبرا . وأخوه إبراهيم بن حسن ، وقل من خرج منهم من الحبس ، وقد كانوا في سجن لا يسمعون فيه التأذين ، ولا يعرفون وقت الصلاة إلا بالتلاوة ، ثم [ ص: 353 ] بعث أهل خراسان يشفعون في محمد بن عبد الله العثماني ، فأمر به ، فضربت عنقه ، وأرسل برأسه إلى أهل خراسان .
وهو محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي ، أبو عبد الله المدني المعروف بالديباج ، لحسن وجهه ، وأمه فاطمة بنت الحسين بن علي ، روى الحديث عن أبيه وأمه وخارجة بن زيد وطاوس وأبي الزناد والزهري ونافع وغيرهم ، وحدث عنه جماعة ، ووثقه النسائي وكان أخا وابن حبان ، عبد الله بن حسن بن حسن لأمه ، وكانت ابنته رقية زوجة ابن أخيه إبراهيم بن عبد الله ، وبسببها قتله أبو جعفر المنصور في هذه السنة . وكان كريما جوادا ممدحا .
قال الزبير بن بكار : أنشدني سليمان بن عياش السعدي لأبي وجزة السعدي يمدحه :
وجدنا المحض الابيض من قريش فتى بين الخليفة والرسول أتاك المجد من هنا وهنا
وكنت له بمعتلج السيول [ ص: 354 ] فما للمجد دونك من مبيت
وما للمجد دونك من مقيل ولا ممضى وراءك تبتغيه
وما هو قابل بك من بديل