فيها الرشيد لولده البيعة بولاية العهد من بعد أخيه عبد الله المأمون محمد ابن زبيدة الأمين ، وذلك أخذ بالرقة بعد مرجعه من الحج ، وضم ابنه المأمون إلى جعفر بن يحيى البرمكي ، ثم أرسله إلى بغداد ومعه جماعة من أهل الرشيد خدمة له ، وولاه خراسان وما يتصل بها ، وسماه المأمون .
وفيها من مجاورته يحيى بن خالد البرمكي بمكة إلى بغداد . رجع
وفيها الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح ، فبلغ غزا مدينة أصحاب الكهف .
وفيها الروم عيني ملكهم قسطنطين بن أليون ، وملكوا عليهم أمه رينى ، وتلقب أغسطة . سملت
موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس . وحج بالناس فيها
وممن إسماعيل بن عياش الحمصي أحد المشاهير من أئمة الشاميين ، وفيه كلام . توفي فيها من الأعيان :
[ ص: 615 ] ومروان بن أبي حفصة ، الشاعر المشهور المشكور ، كان يمدح الخلفاء والبرامكة ومعن بن زائدة ، وكان قد تحصل له من الأموال شيء كثير جدا ، وكان مع ذلك من أبخل الناس ، لا يكاد يأكل اللحم من بخله ، ولا يشعل في بيته سراجا ، ولا يلبس من الثياب إلا الكرباس والفرو الغليظ ، وكان رفيقه سلم الخاسر إذا ركب إلى دار الخلافة يأتي على برذون ، وبدلة سنية تساوي ألف دينار ، والطيب ينفح من ثيابه ، ويأتي مروان في شر حالة وأسوئها .
وخرج يوما إلى المهدي ، فقالت امرأة من أهله : إن أطلق لك الخليفة شيئا فاجعل لي منه شيئا . فقال : إن أعطاني مائة ألف درهم فلك درهم . فأعطاه ستين ألفا ، فأعطاها أربعة دوانيق . توفي ببغداد في هذه السنة ، ودفن في مقبرة نصر بن مالك .
والقاضي أبو يوسف وهو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب بن سعد بن حبتة ، وهي أمه ، وأبوه بحير بن معاوية ، وسعد هذا له صحبة ، استصغر يوم [ ص: 616 ] أحد ، وأبو يوسف القاضي هذا كان أكبر أصحاب أبي حنيفة ، رحمه الله ، وروى الحديث عن الأعمش ، وهشام بن عروة ، ومحمد بن إسحاق ، ويحيى بن سعيد ، وغيرهم . وعنه محمد بن الحسن ، وأحمد بن حنبل ، . ويحيى بن معين
قال علي بن الجعد : سمعته يقول : توفي أبي وأنا صغير ، فأسلمتني أمي إلى قصار ، فكنت أمر على حلقة أبي حنيفة ، فأجلس فيها ، فكانت أمي تتبعني ، فتأخذ بيدي من الحلقة وتذهب بي إلى القصار ، ثم كنت أخالفها في ذلك وأذهب إلى أبي حنيفة ، فلما طال ذلك قالت أمي : إن هذا صبي يتيم ، ليس له شيء إلا ما أطعمه من مغزلي ، وإنك قد أفسدته علي . فقال لها : اسكتي يا رعناء ، ها هو ذا يتعلم العلم ، وسيأكل الفالوذج بدهن الفستق . فقالت له : إنك شيخ قد خرفت . قال لأبي حنيفة أبو يوسف : فلما وليت القضاء - وكان أول من ولاه القضاء الهادي ، وهو أول من لقب بقاضي القضاة ، وكان يقال له : قاضي قضاة الدنيا . لأنه كان يستنيب في سائر الأقاليم التي يحكم فيها الخليفة - قال أبو يوسف : فبينا أنا ذات يوم عند الرشيد إذ أتي بفالوذج وكنت لا أعرفها ، فقال لي : كل من هذا; فإنه لا يصنع لنا كل وقت . فقلت : وما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال : هذا الفالوذج . قال : فتبسمت ، فقال : ما لك تتبسم؟ فقلت : لا شيء ، أبقى الله أمير المؤمنين . فقال : لتخبرني : فقصصت عليه القصة من أولها ، فقال : إن العلم ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة . ثم قال : رحم الله أبا حنيفة ، فلقد كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه .
[ ص: 617 ] وكان أبو حنيفة يقول عن أبي يوسف : إنه أعلم أصحابه .
وقال المزني : كان أبو يوسف أتبعهم للحديث .
وقال ابن المديني : كان صدوقا . وقال ابن معين : كان ثقة . وقال أبو زرعة : كان سليما من التجهم .
وقال بشار الخفاف : سمعت أبا يوسف يقول : من قال : القرآن مخلوق . فحرام كلامه ، وفرض مباينته .
ومن كلامه الذي ينبغي كتابته بماء الذهب قوله : من طلب المال بالكيمياء أفلس ، ومن تتبع غرائب الحديث كذب ، ومن طلب العلم بالكلام تزندق .
ولما تناظر هو ومالك بالمدينة بحضرة الرشيد في مسألة الصاع وزكاة الخضراوات احتج مالك بما استدعى به من تلك الصيعان المنقولة عن آبائهم وأسلافهم ، وبأنه لم تكن الخضراوات في زمن الخلفاء الراشدين . فقال : لو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت . وهذا إنصاف .
وقد كان يحضر في مجلس حكمه العلماء على طبقاتهم ، حتى إن كان شابا ، وكان يحضر مجلسه في أثناء الناس ، فيتناظرون ويتباحثون فيه ، وهو مع ذلك يحكم ويصنف أيضا . أحمد بن حنبل
[ ص: 618 ] وقال : وليت هذا الحكم ، وأرجو الله أن لا يسألني عن جور ولا ميل إلى أحد إلا يوما واحدا; جاءني رجل فذكر أن له بستانا ، وأنه في يد أمير المؤمنين ، فدخلت إلى أمير المؤمنين فأعلمته ، فقال : البستان لي ، اشتراه لي المهدي . فقلت : إن رأى أمير المؤمنين أن يحضره لأسمع دعواه . فأحضره فادعى بالبستان ، فقلت : ما تقول يا أمير المؤمنين؟ فقال : هو بستاني . فقلت للرجل : قد سمعت ما أجاب . فقال الرجل : يحلف . فقلت : أتحلف يا أمير المؤمنين؟ فقال : لا . فقلت : سأعرض عليك اليمين ثلاثا ، فإن حلفت وإلا حكمت عليك . فعرضتها عليه ثلاثا فامتنع ، فحكمت بالبستان للمدعي . قال : فكنت في أثناء الخصومة أود أن ننفصل ، ولم يمكني أن أجلس الرجل مع الخليفة . وبعث القاضي أبو يوسف في تسليم البستان إلى الرجل .
وروى عن المعافى بن زكريا الجريري ، محمد ابن أبي الأزهر ، عن حماد ابن أبي إسحاق - الموصلي ، عن أبيه ، عن عن بشر بن الوليد ، أبي يوسف قال : بينا أنا ذات ليلة قد نمت في الفراش ، إذا رسول الخليفة يطرق الباب ، فخرجت منزعجا فقال : أمير المؤمنين يدعوك . فذهبت فإذا هو جالس ومعه عيسى بن جعفر ، فقال لي الرشيد : إن هذا قد طلبت منه جارية يهبنيها ، فلم يفعل ، أو يبيعنيها فلم يفعل ، وإني أشهدك إن لم يجبني إلى ذلك قتلته . فقلت لعيسى : لم لم تفعل؟ فقال : إني حالف بالطلاق والعتاق وصدقة مالي كله أن لا أبيعها ولا أهبها . فقال لي الرشيد : فهل له من مخلص؟ فقلت : نعم ، يبيعك نصفها ، ويهبك نصفها . فوهبه النصف ، وباعه النصف بمائة ألف دينار ، فقبل منه ذلك ، [ ص: 619 ] وأحضرت الجارية ، فلما رآها الرشيد قال : هل لي من سبيل عليها الليلة؟ قلت : إنها مملوكة ، ولا بد من استبرائها ، إلا أن تعتقها وتتزوجها ، فإن الحرة لا تستبرأ . قال : فأعتقها وزوجتها منه بعشرين ألف دينار ، وأمر لي بمائتي ألف درهم وعشرين تختا من ثياب ، وأرسلت إلي الجارية بعشرة آلاف دينار .
قال كنت عند يحيى بن معين : أبي يوسف ، فجاءته هدية من ثياب دبيقي وطيب وتماثيل ند وغير ذلك ، فذاكرني رجل في إسناد حديث : . فقال " من أهديت له هدية وعنده قوم جلوس فهم شركاؤه " أبو يوسف : إنما ذاك في الأقط والتمر والزبيب ، ولم تكن الهدايا ما ترون ، يا غلام ، شل إلى الخزائن .
وقال : سمعت بشر بن غياث المريسي أبا يوسف يقول : صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة ، ثم انصبت علي الدنيا سبع عشرة سنة ، وما أظن أجلي إلا قد اقترب . فما كان شهور حتى مات .
وقد مات أبو يوسف في ربيع الأول من هذه السنة عن تسع وستين سنة ، وقد مكث في القضاء ست عشرة سنة ، وولي القضاء من بعده ولده يوسف . [ ص: 620 ] وقد كان نائبه على الجانب الغربي من بغداد . ومن زعم من الرواة أن اجتمع الشافعي بأبي يوسف كما يقوله عبد الله بن محمد البلوي الكذاب في الرحلة التي ساقها فقد أخطأ في ذلك ، فإن الشافعي ، إنما ورد الشافعي بغداد في أول قدمة قدمها إليها في سنة أربع وثمانين . وإنما اجتمع بمحمد بن الحسن الشيباني ، فأحسن إليه وأقبل عليه ، ولم يكن بينهما شنآن ، كما قد يذكره بعض من لا خبرة له بهذا الشأن . والله أعلم .
وفيها توفي يعقوب بن داود بن طهمان أبو عبد الله ، مولى عبد الله بن خازم السلمي ، استوزره المهدي ، وسلم إليه أزمة الأمور ، وحظي عنده جدا ، ثم لما أمره بقتل ذلك العلوي فأرسله ، ونمت عليه الجارية ، وتحقق أنه لم يفعل ، سجنه في بئر ، وبنيت عليه قبة ، ونبت عليه شعر كما ينبت شعر الأنعام ، وعمي ، ويقال : عشي بصره ، ومكث نحوا من خمس عشر سنة في ذلك المكان لا يرى شيئا ، ولا يسمع صوتا إلا حين الصلوات يعلم به ، ويدلى إليه في كل يوم رغيف وكوز ماء ، حتى انقضت أيام المهدي وأيام الهادي وصدر من خلافة الرشيد ، قال يعقوب : فأتاني آت في منامي فقال :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب فيأمن خائف ويفك عان
ويأتي أهله النائي الغريب
ويزيد بن زريع أبو معاوية العيشي ، كان ثقة عالما عابدا ورعا ، توفي أبوه وكان والي البصرة ، وترك من المال خمسمائة ألف درهم ، فلم يأخذ منها يزيد درهما واحدا ، وكان يعمل الخوص ، ويأكل منه . وتوفي بالبصرة في هذه السنة ، وقيل قبل ذلك . فالله أعلم .