فيها محمد بن سليمان بالبصرة ، فأمر توفي الرشيد بالاحتياط على حواصله التي تصلح للخلفاء ، فوجدوا من ذلك شيئا كثيرا جدا ، فقبضوه; من الذهب والفضة والأمتعة التي يستعان بها على الحرب وعلى تقوي المسلمين من العدد والبرك وغير ذلك .
وهو محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس ، وأمه أم حسن بنت جعفر بن حسن بن حسن بن علي ، وكان من رجالات قريش وشجعانهم . جمع له المنصور بين البصرة والكوفة ، وزوجه المهدي ابنته العباسة ، وكان له من الأموال شيء كثير ، وكان دخله كل يوم مائة ألف . وكان له خاتم من ياقوت أحمر لم ير مثله .
روى الحديث عن أبيه ، عن جده الأكبر - وهو ابن عباس - حديثا مرفوعا في مسح رأس اليتيم إلى مقدم رأسه ، ومسح رأس من له أب إلى مؤخره .
[ ص: 569 ] وقد وفد على الرشيد ، فهنأه بالخلافة ، فأكرمه وعظمه ، وزاده في عمله شيئا كثيرا . ولما أراد الخروج خرج معه الرشيد يشيعه إلى كلواذى .
توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة عن إحدى وخمسين سنة .
وقد أرسل الرشيد من اصطفى من ماله الصامت ، فوجد له من الذهب ثلاثة آلاف ألف دينار ، ومن الدراهم ستين ألف ألف ، خارجا عن الأملاك والجواهر .
وقد ذكر ابن جرير أن وفاته ووفاة الخيزران في يوم واحد .
وقد وقفت جارية من جواريه على قبره ، فأنشأت تقول :
أمسى التراب لمن هويت مبيتا الق التراب فقل له حييتا إنا نحبك يا تراب وما بنا
إلا كرامة من عليه حثيتا
وقد روي من طريق الخيزران ، عن مولاها المهدي ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من اتقى الله وقاه الله كل شيء .
ولما عرضت على المهدي ليشتريها أعجبته إلا دقة ساقيها ، فقال لها : يا جارية ، إنك لعلى غاية المنى لولا خموشة في ساقيك . فقالت : يا أمير المؤمنين ، إنك أحوج ما تكون إليهما لا تراهما . فاستحسن جوابها واشتراها ، وحظيت عنده جدا .
وقد حجت الخيزران مرة في حياة المهدي ، فكتب إليها وهي بمكة يستوحش لها ، ويتشوق إليها ، يقول :
نحن في غاية السرور ولكن ليس إلا بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودي أنكم غيب ونحن حضور
فأجدوا في السير بل إن قدرتم أن تطيروا مع الرياح فطيروا
قد أتانا الذي وصفت من الشو ق فكدنا وما فعلنا نطير
[ ص: 571 ] ليت أن الرياح كن يؤدي ن إليكم ما قد يجن الضمير
لم أزل صبة فإن كنت بعدي في سرور فدام ذاك السرور
وقد اشترت الدار المشهورة بها بمكة المعروفة بدار الخيزران ، فزادتها في المسجد الحرام .
وكان مغل ضياعها في كل سنة ألف ألف وستين ألفا .
واتفق موتها ببغداد ليلة الجمعة لثلاث بقين من جمادى الآخرة من هذه السنة ، فخرج ابنها الرشيد في جنازتها وهو حامل سريرها يخب في الطين ، فلما انتهى إلى المقبرة أتي بماء ، فغسل رجليه ولبس خفا ، وصلى عليها ، ونزل في لحدها ، فلما خرج من القبر أتي بسرير ، فجلس عليه ، واستدعى بالفضل بن الربيع ، فولاه الخاتم والنفقات . وأنشد الرشيد قول متمم بن نويرة حين دفن أمه الخيزران :
[ ص: 572 ]
وكنا كندماني جذيمة برهة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
أخلفت عهدي بعد ما جاورت سكان المقابر
ونسيتني وحنثت في أيمانك الكذب الفواجر
ونكحت غادرة أخي صدق الذي سماك غادر
[ ص: 573 ] أمسيت في أهل البلى وغدوت في الحور الغرائر
لا يهنك الإلف الجدي د ولا تدر عنك الدوائر
ولحقت بي قبل الصبا ح وصرت حيث غدوت صائر
هيلانة جارية الرشيد ، وهو الذي سماها هيلانة لكثرة قولها : هي لانة .
قال الأصمعي : وكان لها محبا ، وكانت قبله ليحيى بن خالد بن برمك ، فدخل الرشيد يوما منزله قبل الخلافة ، فاعترضته في الطريق ، فقالت : أما لنا منك نصيب؟ فقال لها؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟ فقالت : استوهبني من هذا الشيخ . فاستوهبها من يحيى بن خالد ، فوهبها له فحظيت عنده ، ومكثت عنده ثلاث سنين ، ثم توفيت ، فحزن عليها حزنا شديدا ورثاها واسترثاها ، وكان من قوله فيها :
قد قلت لما ضمنوك الثرى وجالت الحسرة في صدري
اذهب فلا والله لا سرني بعدك شيء آخر الدهر
[ ص: 574 ]
يا من تباشرت القبور بموتها قصد الزمان مساءتي فرماك
أبغي الأنيس فما أرى لي مؤنسا إلا التردد حيث كنت أراك
ملك بكاك وطال بعدك حزنه لو يستطيع بملكه لفداك
تحمي الفؤاد عن النساء حفيظة كيلا يحل حمى الفؤاد سواك