[ ص: 569 ] ثم دخلت سنة سبع وخمسين وسبعمائة
استهلت هذه السنة وسلطان البلاد بالديار المصرية ، والشامية والحرمين ، وغير ذلك - الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي ، ولا نائب ولا وزير بمصر ، وإنما يرجع تدبير المملكة إلى الأمير سيف الدين شيخون ، ثم الأمير سيف الدين صرغتمش ، ثم الأمير عز الدين طقطاي الدويدار ، وقضاة مصر هم المذكورون في التي قبلها سوى الشافعي ، فإنه ابن المتوفى قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي ، ونائب حلب الأمير سيف الدين طاز ، وطرابلس الأمير سيف الدين منجك ، وبصفد الأمير شهاب الدين بن صبح ، وبحماة أسندمر العمري ، وبحمص علاء الدين بن المعظم ، وببعلبك الأمير ناصر الدين بن الأقوش .
وفي العشر الأول من ربيع الأول تكامل إصلاح بلاط الجامع الأموي ، وغسل فصوص المقصورة والقبة ، وبسط بسطا حسنا ، وبيضت أطباق القناديل ، وأضاء حاله جدا ، وكان المستحث على ذلك الأمير علاء الدين أيدغمش أحد أمراء الطبلخاناه ، بمرسوم نائب السلطنة له في ذلك .
[ ص: 570 ] وفي يوم الجمعة الثامن والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة صلي على الأمير سيف الدين براق أمير آخور بجامع تنكز ، ودفن بمقابر الصوفية ، وكان مشكور السيرة ، كثير الصلاة والصدقة ، محبا للخير وأهله ، من أكبر أصحاب الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، رحمه الله تعالى ، وقد رسم لولديه ناصر الدين محمد ، وسيف الدين أبي بكر; كل منهما بعشرة أرماح ، ولناصر الدين بمكان أبيه في الوظيفة بإصطبل السلطان .
وفي يوم الخميس رابع شهر جمادى الأولى خلع على الأميرين الأخوين; ناصر الدين محمد ، وسيف الدين أبي بكر ، ولدي الأمير سيف الدين براق - رحمه الله تعالى - بأميرين عشرتين .
ووقع في هذا الشهر نزاع بين الحنابلة في مسألة المناقلة ، وكان سببها أن القاضي المالكي - وهو قاضي القضاة جمال الدين المسلاتي - أذن للشيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل الحنبلي أن يحكم بالمناقلة في قرار دار الأمير سيف الدين طيدمر الإسماعيلي حاجب الحجاب إلى أرض أخرى يجعلها وقفا على ما كانت قرار داره عليه ، ففعل ذلك بطريقه ، ونفذه القضاة الثلاثة; الشافعي ، والحنفي ، والمالكي ، فغضب القاضي الحنبلي - وهو قاضي القضاة جمال الدين المرداوي المقدسي - من ذلك ، وعقد بسبب ذلك مجالس ، وتطاول الكلام فيه ، وادعى [ ص: 571 ] كثير منهم أن مذهب الإمام أحمد في المناقلة إنما هو في حال الضرورة ، وحيث لا يمكن الانتفاع بالموقوف ، فأما المناقلة لمجرد المصلحة والمنفعة الراجحة فلا ، وامتنعوا من قبول ما قرره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في ذلك ونقله عن الإمام أحمد من وجوه كثيرة من طريق ابنه صالح ، وحرب ، وأبي داود ، وغيرهم أنها تجوز للمصلحة الراجحة ، وصنف في ذلك مسألة مفردة ، وقفت عليها فرأيتها في غاية الحسن والإفادة ، بحيث لا يتخالج من اطلع عليها ممن يذوق طعم الفقه أنها مذهب الإمام أحمد رحمه الله ، فقد احتج أحمد في ذلك في رواية ابنه صالح بما رواه عن عن يزيد بن هارون ، المسعودي ، عن ، أن القاسم بن محمد عمر كتب إلى ابن مسعود أن يحول المسجد الجامع بالكوفة إلى موضع سوق التمارين ، ويجعل السوق في مكان المسجد الجامع العتيق ، ففعل ذلك ، فهذا فيه أوضح دلالة على ما استدل به فيها من النقل بمجرد المصلحة ، فإنه لا ضرورة إلى جعل المسجد العتيق سوقا ، على أن الإسناد فيه انقطاع بين القاسم وبين عمر ، وبين القاسم ولكن قد جزم به صاحب " المذهب " ، واحتج به ، وهو ظاهر واضح في ذلك ، فعقد المجلس في يوم الاثنين الثامن والعشرين من الشهر . وابن مسعود ،
وفي ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من جمادى الأولى ، وقع حريق عظيم ظاهر باب الفرج ، احترق بسببه قياسير كثيرة لطاز ويلبغا ، وقيسرية الطواشي لبنت [ ص: 572 ] تنكز ، وأخر كثيرة ، ودور ، ودكاكين ، وذهب للناس شيء كثير من الأمتعة ، والنحاس ، والبضائع ، وغير ذلك مما يقاوم ألف ألف وأكثر خارجا عن الأموال ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وقد ذكر كثير من الناس أنه كان في هذه القياسير شر كثير من الفسق ، والربا ، والزغل ، وغير ذلك .
وفي السابع والعشرين من جمادى الأولى ورد الخبر بأن الفرنج - لعنهم الله - استحوذوا على مدينة صيدا; قدموا في سبعة مراكب ، وقتلوا طائفة من أهلها ، ونهبوا شيئا كثيرا ، وأسروا أيضا ، وهجموا على الناس وقت الفجر يوم الجمعة ، وقد قتل منهم المسلمون خلقا كثيرا ، وكسروا مركبا من مراكبهم ، وجاء الفرنج في عشية السبت قبل العصر ، وقدم الوالي وهو جريح مثقل ، فأمر نائب السلطنة عند ذلك بتجهيز الجيش إلى تلك الناحية ، فساروا تلك الليلة ، ولله الحمد ، وتقدمهم حاجب الحجاب ، وتحدر إليهم نائب صفد الأمير شهاب الدين بن صبح ، فسبق الجيش الدمشقي ، ووجد الفرنج قد برزوا بما غنموا من الأمتعة والأسارى إلى جزيرة تلقاء صيدا في البحر ، وقد أسر المسلمون منهم في المعركة شيخا وشابا من أبناء أشرافهم ، وهو الذي عاقهم عن الذهاب ، فراسلهم الجيش في انفكاك الأسارى من أيديهم ، ففادوهم عن كل رأس بخمسمائة ، فأخذوا من ديوان الأسارى مبلغ ثلاثين ألفا ، ولم يبق معهم - ولله الحمد - أحد .
واستمر الصبي من الفرنج مع المسلمين ، وأسلم ، ودفع إليهم الشيخ الجريح ، وعطش الفرنج عطشا شديدا ، وأرادوا أن يرووا من نهر هناك ، فبادرهم الجيش إليه ، [ ص: 573 ] فمنعوهم أن ينالوا منه قطرة واحدة ، فرحلوا ليلة الثلاثاء منشمرين بما معهم من الغنائم ، وبعثت رءوس جماعة من الفرنج ممن قتل في المعركة فنصبت على القلعة بدمشق ، وجاء الخبر في هذا الوقت بأن إياس قد أحاط بها الفرنج ، وقد أخذوا الربض ، وهم محاصرون القلعة ، وفيها نائب البلد ، وذكروا أنهم قتلوا خلقا كثيرا من أهلها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وذهب صاحب حلب في جيش كثيف نحوهم ، والله المسئول أن يظفرهم بهم بحوله وقوته ، وشاع بين العامة أيضا أن الإسكندرية محاصرة ، ولم يتحقق ذلك إلى الآن ، وبالله المستعان .
وفي يوم السبت رابع جمادى الآخرة قدم رءوس من قتلى الفرنج على صيدا ، وهي بضع وثلاثون رأسا ، فنصبت على شرفات القلعة ، ففرح المسلمون بذلك ، ولله الحمد .
وفي ليلة الأربعاء الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وقع حريق عظيم داخل باب الصغير من مطبخ السكر الذي عند السويقة الملاصقة لمسجد الشنباشي ، فاحترق المطبخ وما حوله إلى حمام أبي نصر ، واتصل بالسويقة المذكورة وما هنالك من الأماكن ، فكان قريبا أو أكثر من الحريق ظاهر باب الفرج ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وحضر نائب السلطنة ، وذلك أنه كان وقت صلاة العشاء ، ولكن كان الريح قويا ، وذلك بتقدير العزيز العليم .
[ ص: 574 ] وتوفي الشيخ عز الدين محمد بن إسماعيل بن عمر الحموي ، أحد مشايخ الرواة ، في ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين من جمادى الآخرة ، وصلي عليه من الغد بالجامع الأموي بعد الظهر ، ودفن بمقابر باب الصغير . وكان مولده في ثاني عشر ربيع الأول سنة ثمانين وستمائة ، فجمع الكثير ، وتفرد بالرواية عن جماعة في آخر عمره ، وانقطع بموته سماع " السنن الكبير " . رحمه الله . للبيهقي
ووقع حريق عظيم ليلة الجمعة خامس عشر رجب بمحلة الصالحية من سفح قاسيون ، فاحترق السوق القبلي من جامع الحنابلة بكماله شرقا وغربا ، وجنوبا وشمالا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وفي يوم الجمعة خامس شهر رمضان خطب بالجامع الذي أنشاه سيف الدين يلبغا الناصري غربي سوق الخيل ، وفتح في هذا اليوم ، وجاء في غاية الحسن والبهاء ، وخطب الشيخ ناصر الدين بن الربوة الحنفي ، وكان قد نازعه فيه الشيخ شمس الدين الشافعي الموصلي ، وأظهر ولاية من واقفه يلبغا المذكور ، ومراسيم شريفة سلطانية ، ولكن قد قوي عليه ابن الربوة ; بسبب أنه نائب عن الشيخ قوام الدين الإتقاني الحنفي ، وهو مقيم بمصر ، ومعه ولاية من السلطان متأخرة عن ولاية الموصلي ، فرسم لابن الربوة ، فلبس يومئذ الخلعة السوداء من دار السعادة ، وجاءوا بين يديه بالسناجق السود الخليفتية ، والمؤذنون يكبرون على العادة ، وخطب يومئذ خطبة حسنة ، أكثرها في فضائل القرآن ، وقرأ في [ ص: 575 ] المحراب بأول سورة " طه " ، وحضر كثير من الأمراء ، والعامة ، والخاصة ، وبعض القضاة ، وكان يوما مشهودا ، وكنت ممن حضر قريبا منه . والعجب أني وقفت في شهر ذي القعدة على كتاب أرسله بعض الناس إلى صاحب له من بلاد طرابلس ، وفيه : والمخدوم يعرف الشيخ عماد الدين بما جرى في بلاد السواحل من الحريق ، من بلاد طرابلس إلى آخر معاملة بيروت إلى جميع كسروان ، أحرق الجبال كلها ، ومات الوحوش كلها مثل النمور ، والدب ، والثعلب ، والخنزير; من الحريق ، ما بقي للوحوش موضع يهربون فيه ، وبقي الحريق ثلاثة أيام ، وهرب الناس إلى جانب البحر من خوف النار ، واحترق زيتون كثير ، فلما نزل المطر أطفأه بإذن الله تعالى ، قال : ومن العجب أن ورقة من شجرة سقطت في بيت من مدخنته فأحرقت جميع ما فيه من الأثاث ، والثياب ، وغير ذلك ، ومن حليه حريرا كثيرا ، وغالب هذه البلاد للدرزية والرافضة . نقلته من خط كاتبه محمد بن بلبان إلى صاحبه ، وهما عندي ثقتان ، فيالله للعجب .
وفي هذا الشهر - يعني : ذي القعدة - وقع بين الشيخ عماد الدين إسماعيل بن العز الحنفي وبين أصحابه من الحنفية مناقشة; بسبب اعتدائه على بعض الناس في محاكمة ، فاقتضى ذلك إحضاره إلى مجلس الحكم ثلاثة أيام كمثل المتمرد عندهم ، فلما لم يحضر فيها حكم عليه القاضي شهاب الدين الكفري - نائب الحنفي - بإسقاط عدالته ، ثم ظهر خبره بأنه قصد بلاد مصر ، فأرسل النائب في أثره من يرده ، فعنفه ، ثم أطلقه إلى منزله ، وشفع فيه قاضي القضاة الحنفي [ ص: 576 ] فاستحسن ذلك ، ولله الحمد .