[ ص: 168 ]
ثم دخلت سنة خمس وأربعين
فيها معاوية البصرة للحارث بن عبد الله الأزدي ، ثم عزله بعد أربعة أشهر ، وولى ولى زيادا ، فقدم زياد الكوفة وعليها المغيرة بن شعبة ، فأقام بها ليأتيه رسول معاوية بولاية البصرة ، فظن المغيرة أنه قد جاء على إمرة الكوفة ، فبعث إليه ليعلم له خبره ، فاجتمع به فلم يقدر منه على شيء ، فجاء البريد إلى وائل بن حجر زياد أن يسير إلى البصرة واستعمله على خراسان وسجستان ، ثم جمع له الهند والبحرين وعمان . ودخل زياد البصرة في مستهل جمادى الأولى ، فقام في أول خطبة خطبها ، وقد وجد الفسق ظاهرا في البصرة ، فقال فيها : أيها الناس ، كأنكم لم تسمعوا ما أعد الله من الثواب لأهل الطاعة ، والعذاب لأهل المعصية ، أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا ، وسدت مسامعه الشهوات فاختار الفانية على الباقية . ثم ما زال يقيم أمر السلطان ويجرد السيف حتى خافه الناس خوفا عظيما ، وتركوا ما كانوا فيه من المعاصي الظاهرة ، واستعان بجماعة من الصحابة ، عمران بن حصين القضاء بالبصرة ، وولى نيابة الحكم بن عمرو الغفاري خراسان ، وولى وولى سمرة بن جندب وعبد الرحمن بن سمرة . وأنس بن مالك
وكان زياد حازم الرأي ، ذا هيبة ، داهية ، وكان مفوها فصيحا بليغا ; قال [ ص: 169 ] الشعبي : ما سمعت متكلما قط تكلم فأحسن إلا أحببت أن يسكت ; خوفا من أن يسيء إلا زيادا ; فإنه كان كلما أكثر كان أجود كلاما . وقد كانت له وجاهة عند عمر بن الخطاب .
وفي هذه السنة الحكم بن عمرو نائب زياد على خراسان جبل الأشل ، عن أمر غزا زياد ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، وغنم أموالا جمة ، فكتب إليه زياد : إن أمير المؤمنين قد جاء كتابه أن يصطفى له كل صفراء وبيضاء - يعني الذهب والفضة - يجمع كله من هذه الغنيمة لبيت المال . فكتب الحكم بن عمرو إليه : إن كتاب الله مقدم على كتاب أمير المؤمنين ، وإنه والله لو كانت السماوات والأرض على عبد فاتقى الله ، لجعل له مخرجا . ثم نادى في الناس أن اغدوا على قسم غنيمتكم . فقسمها بينهم ، وخالف زيادا فيما كتب إليه عن معاوية ، وعزل الخمس كما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال الحكم : اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك . فمات بمرو من خراسان ، رضي الله عنه .
قال ابن جرير : مروان بن الحكم وكان نائب وحج بالناس في هذه السنة المدينة . وكانت الولاة والعمال هم الذين كانوا في السنة الماضية .
[ ص: 170 ] وفي هذه السنة الأنصاري زيد بن ثابت أحد كتاب الوحي ، وقد ذكرنا ترجمته فيهم في أواخر السيرة ، توفي بالشام ، عن أمر وهو الذي كتب هذا المصحف الإمام الذي عثمان بن عفان ، وهو خط جيد قوي جدا فيما رأيته ، وقد من أشد الناس ذكاء ، تعلم لسان زيد بن ثابت يهود وكتابهم في خمسة عشر يوما . قال كان أبو الحسن بن البراء : كسرى في ثمانية عشر يوما ، وتعلم الحبشية والرومية والقبطية من خدام رسول الله صلى الله عليه وسلم . تعلم الفارسية من رسول
قال الواقدي : الخندق ، وهو ابن خمس عشرة سنة . وفي الحديث الذي رواه وأول مشاهده أحمد : " وأعلمهم بالفرائض والنسائي " . وقد استعمله زيد بن ثابت عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، على القضاء . وقال مسروق : كان من الراسخين في العلم . زيد بن ثابت
وقال محمد بن عمر ، عن أبي سلمة ، عن ابن عباس أنه أخذ بالركاب فقال له : تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : لا هكذا نفعل بعلمائنا وكبرائنا . لزيد بن ثابت
[ ص: 171 ] وقال الأعمش ، عن ثابت بن عبيد قال : كان من أفكه الناس في بيته ، ومن أزمته إذا خرج إلى الرجال . زيد بن ثابت
وقال : محمد بن سيرين إلى الصلاة ، فوجد الناس راجعين منها ، فتوارى عنهم وقال : من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله . زيد بن ثابت خرج
مات في هذه السنة ، وقيل : في سنة خمس وخمسين . والصحيح الأول ، وقد قارب الستين ، وصلى عليه نائب مروان بن الحكم المدينة . وقال ابن عباس : لقد مات اليوم علم كثير . وقال : مات حبر هذه الأمة . أبو هريرة
، عن سبعين سنة سلمة بن سلامة بن وقش ، وقد شهد وفيها مات بدرا وما بعدها ، ولا عقب له .
وعاصم بن عدي ، وقد استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى بدر على قباء وأهل العالية ، وشهد أحدا وما بعدها ، وتوفي عن خمس عشرة ومائة ، وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ومالك بن الدخشم إلى مسجد الضرار فحرقاه .
[ ص: 172 ] حفصة بنت عمر بن الخطاب أم المؤمنين ، وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت وفيها توفيت خنيس بن حذافة السهمي ، وهاجرت معه إلى المدينة ، فتوفي عنها بعد بدر ، فلما انقضت عدتها عثمان بعد وفاة زوجته عرضها أبوها على صلى الله عليه وسلم ، فأبى أن يتزوجها ، رقية بنت رسول الله أبي بكر فلم يرد عليه شيئا ، فما كان عن قريب حتى خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجها ، فعاتب فعرضها على عمر أبا بكر بعد ذلك في ذلك ، فقال له أبو بكر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد ذكرها ، فما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو تركها لتزوجتها .
وقد روينا في الحديث حفصة ثم راجعها . وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق جبريل أمره بمراجعتها ، وقال : إنها صوامة قوامة ، وهي زوجتك في الجنة . وقد أجمع الجمهور أنها توفيت في شعبان من هذه السنة عن ستين سنة . وقيل : إنها توفيت أيام أن عثمان . والأول أصح . والله أعلم .