قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ( التوبة : 28 ، 29 ) روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم ، أنه لما أمر الله تعالى أن يمنع المشركون من قربان المسجد الحرام في الحج وغيره قالت قريش : لينقطعن عنا المتاجر والأسواق أيام الحج ، وليذهبن ما كنا نصيب منها . فعوضهم الله عن ذلك بالأمر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
قلت : فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم; لأنهم أقرب الناس إليه وأولى الناس بالدعوة إلى الحق; لقربهم إلى الإسلام وأهله . وقد قال الله تعالى : [ ص: 145 ] يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ( التوبة : 123 ) فلما الروم عام تبوك وكان ذلك في حر شديد وضيق من الحال ، جلى للناس أمرها ودعا من حوله من أحياء الأعراب للخروج معه ، فأوعب معه بشر كثير ، كما سيأتي ، قريبا من ثلاثين ألفا ، وتخلف آخرون ، فعاتب الله من تخلف منهم لغير عذر من المنافقين والمقصرين ، ولامهم ووبخهم وقرعهم أشد التقريع ، وفضحهم أشد الفضيحة ، وأنزل فيهم قرآنا يتلى وبين أمرهم في سورة " براءة " كما قد بينا ذلك مبسوطا في " التفسير " وأمر المؤمنين بالنفر على كل حال . فقال تعالى : عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزو انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون ثم الآيات بعدها . ثم قال تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون فقيل : إن هذه ناسخة لتلك . وقيل : لا . فالله أعلم .
قال ابن إسحاق : ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى [ ص: 146 ] رجب - يعني من سنة تسع - ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم . فذكر الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وغيرهم من علمائنا ، كل يحدث عن غزوة وعاصم بن عمر بن قتادة تبوك ما بلغه عنها ، وبعض القوم يحدث ما لم يحدث بعض ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم ، وذلك في زمان عسرة من الناس وشدة من الحر وجدب من البلاد ، وحين طابت الثمار ، فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص في الحال من الزمان الذي هم عليه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما يخرج في غزوة إلا كنى عنها إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بينها للناس ، لبعد المشقة وشدة الزمان وكثرة العدو الذي يصمد إليه ليتأهب الناس لذلك أهبته ، فأمرهم بالجهاد وأخبرهم أنه يريد الروم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أحد بني سلمة : " يا جد هل لك العام في جلاد بني الأصفر ؟ " فقال : ، فوالله لقد عرف قومي أنه ما رجل بأشد عجبا بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء يا رسول الله ، أوتأذن لي ولا تفتني بني الأصفر أن لا أصبر . فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " قد أذنت لك " . ففي الجد أنزل الله هذه الآية : ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ( التوبة : 49 ) . زهادة في الجهاد وشكا في الحق وإرجافا بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى فيهم وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض : لا تنفروا في الحر " وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون " ( التوبة : 81 ، 82 ) .
قال ابن هشام حدثني الثقة ، عمن حدثه ، عن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن عن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله بن حارثة عن أبيه ، عن جده قال : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي - وكان بيته عند جاسوم - يثبطون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فبعث إليهم في نفر من أصحابه ، وأمره أن يحرق عليهم بيت طلحة بن عبيد الله سويلم ففعل طلحة فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت ، فانكسرت رجله ، واقتحم أصحابه فأفلتوا ، فقال الضحاك في ذلك :
كادت وبيت الله نار محمد يشيط بها الضحاك وابن أبيرق وظلت وقد طبقت كبس سويلم
أنوء على رجلي كسيرا ومرفقي سلام عليكم لا أعود لمثلها
أخاف ومن تشمل به النار يحرق
قال ابن هشام فحدثني من أثق به عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن " اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض " . .
وقد قال : حدثنا الإمام أحمد هارون بن معروف ثنا ضمرة ثنا عبد الله بن شوذب عن عبد الله بن القاسم عن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة قال : جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة . قال : فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ، ويقول : " ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم " ورواه الترمذي عن عن محمد بن إسماعيل الحسن بن واقع عن ضمرة به . وقال : حسن غريب . وقاله عبد الله بن أحمد في " مسند " أبيه : حدثني أبو موسى العنزي . حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني سكن بن المغيرة حدثني الوليد بن أبي هشام عن فرقد أبي طلحة عن عبد الرحمن بن خباب السلمي قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة ، فقال عثمان [ ص: 149 ] بن عفان : علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها . قال : ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حث ، فقال عثمان : علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها . قال : فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده هكذا يحركها ، وأخرج عبد الصمد يده ، كالمتعجب : " ما على عثمان ما عمل بعد هذا " وهكذا رواه الترمذي عن عن محمد بن بشار عن أبي داود الطيالسي سكن بن المغيرة أبي محمد مولى لآل عثمان به . وقال : غريب من هذا الوجه .
ورواه من طريق البيهقي عمرو بن مرزوق عن سكن بن المغيرة به . وقال : ثلاث مرات ، وإنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها . قال عبد الرحمن : عثمان بعدها " أو قال : " بعد اليوم " . فأنا شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر : " ما ضر
وقال : حدثنا أبو داود الطيالسي أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن عن عمرو بن جاوان عن قال : الأحنف بن قيس سمعت عثمان بن عفان يقول لسعد بن أبي وقاص وعلي والزبير وطلحة : أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من جهز جيش العسرة غفر الله له " فجهزتهم حتى ما يفقدون [ ص: 150 ] خطاما ولا عقالا قالوا : اللهم نعم ورواه من حديث النسائي حصين به .