ذكر بعضهم بعضا وتذاكرهم أمورا كانت بينهم في الدنيا من طاعات وزلات تزاور أهل الجنة
قال تعالى : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم [ الطور : 25 - 28 ] .
وقال تعالى : فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أإنك لمن المصدقين الآيات إلى قوله : أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم [ الصافات : 50 - 62 ] .
[ ص: 402 ] قال ابن أبي الدنيا : حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا سعيد بن دينار ، عن الربيع بن صبيح ، عن الحسن ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " . إذا دخل أهل الجنة الجنة ، فيشتاق الإخوان بعضهم إلى بعض ، فيسير سرير هذا إلى سرير هذا ، حتى يجتمعا جميعا ، فيقول أحدهما لصاحبه : تعلم متى غفر الله لنا ؟ فيقول صاحبه : كنا في موضع كذا وكذا ، فدعونا الله ، عز وجل ، فغفر لنا
وقال تعالى : فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أإنك لمن المصدقين أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما الآيات إلى قوله : فليعمل العاملون [ الصافات : 50 - 61 ] . وهذا القرين يشمل الإنسي والجني ، يقول : كان يوسوس لي بالكفر والمعاصي واستبعاد أمر المعاد ، فبرحمة الله ونعمته نجوت منه . ثم أمر أصحابه أن يطلعوا معه على النار ، لينظر ما حال قرينه ، فاطلع فرآه في سواء الجحيم . أي : في غمراتها يعذب ، فحمد الله تعالى على نجاته مما قرينه فيه من العذاب .
[ ص: 403 ] ثم قال : تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين . أي : معك فيما أنت فيه من العذاب . ثم ذكر الغبطة التي هو فيها ، وشكر الله عليها ، فقال : أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين . أي : أما قد نجونا من الموت والعذاب بدخولنا الجنة ؟ إن هذا لهو الفوز العظيم . وقوله تعالى : لمثل هذا فليعمل العاملون يحتمل أن يكون من تمام مقالة المؤمن ، ويحتمل أن يكون من كلام الله ، عز وجل ، حثا لعباده على مثل هذا الفوز ، وليتنافس المتنافسون في الفوز عنده من النار ، ودخول الجنة ، لا موت فيها . ولهذا نظائر كثيرة ، قد ذكرناها في " التفسير " .
وذكرنا في أول " شرح " في كتاب الإيمان حديث البخاري حارثة حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حارثة ؟ " فقال : أصبحت مؤمنا حقا . قال : " فما حقيقة إيمانك ؟ " قال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وإلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وإلى أهل النار يعذبون فيها . فقال صلى الله عليه وسلم : " كيف أصبحت يا " . عبد نور الله قلبه
وقال عن سليمان بن المغيرة ، حميد بن هلال قال : بلغنا أن أهل الجنة يزور الأعلى الأسفل ، ولا يزور الأسفل الأعلى .
قلت : وهذا يحتمل معنيين : أحدهما : أن صاحب المرتبة السافلة لا يصلح له أن يتعداها; لأنه ليس فيه [ ص: 404 ] أهلية لذلك .
الثاني : لئلا يرى من النعيم فوق ما هو فيه ، فيحزن لذلك ، وليس في الجنة حزن ، والله أعلم .
وقد ورد ما قاله حميد بن هلال في حديث مرفوع ، وفيه زيادة على ما قال ; فقال : حدثنا الطبراني الحسين بن إسحاق ، حدثنا سهل بن عثمان حدثنا المسيب بن شريك ، عن بشر بن نمير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : " . سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيتزاور أهل الجنة ؟ قال : " يزور الأعلى الأسفل ، ولا يزور الأسفل الأعلى إلا الذين يتحابون في الله ، عز وجل ، فإنهم يأتون منها حيث شاءوا على النوق محتقبين الحشايا
وقال ابن أبي الدنيا : حدثني حمزة بن العباس ، حدثنا عبد الله بن عثمان ، أنا ابن المبارك ، أنا إسماعيل بن عياش ، حدثني ثعلبة بن مسلم ، عن أيوب بن بشير العجلي ، عن شفي بن ماتع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن من نعيم أهل الجنة أنهم يتزاورون على المطايا والنجب ، وأنهم يؤتون في الجنة [ ص: 405 ] بخيل مسرجة ملجمة ، لا تروث ولا تبول فيركبونها ، حتى ينتهوا ، حيث شاء الله عز وجل ، فتأتيهم [ 157 ] مثل السحابة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، فيقولون : أمطري علينا ، فما يزال المطر عليهم حتى ينتهي ذلك فوق أمانيهم ، ثم يبعث الله ريحا غير مؤذية ، فتنسف كثبانا من مسك عن أيمانهم وعن شمائلهم فيأخذ ذلك المسك في نواصي خيولهم ، وفي معارفها ، وفي رءوسهم ، ولكل رجل منهم جمة على ما اشتهت نفسه ، فيتعلق ذلك المسك في تلك الجمام ، في الخيل ، وفيما سوى ذلك من الثياب ، ثم ينقلبون حتى ينتهوا إلى ما شاء الله عز وجل ، فإذا المرأة تنادي بعض أولئك : يا عبد الله أما لك فينا حاجة ؟ فيقول : ما أنت ؟ ومن أنت ؟ فتقول : أنا زوجتك وحبك : فيقول : ما كنت علمت بمكانك . فتقول : أوما تعلم أن الله ، عز وجل ، قال : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [ السجدة : 17 ] . فيقول : بلى وربي . فلعله يشتغل عنها بعد ذلك الوقت أربعين خريفا ، لا يلتفت ولا يعود ، ما يشغله عنها إلا ما هو فيه من النعيم والكرامة ، وهذا حديث مرسل غريب جدا ، والله أعلم .
وقال ابن المبارك : حدثنا ، حدثني رشدين بن سعد ابن أنعم ، عن [ ص: 406 ] قال : إن أهل الجنة ليتزاورون على العيس الخور ، عليها رحال الميس ، تثير مناسمها غبار المسك ، خطام أو زمام - أحدها خير من الدنيا وما فيها . أبي هريرة
وروى ابن أبي الدنيا من طريق إسماعيل بن عياش ، عن عمر بن محمد ، عن عن أبيه ، عن زيد بن أسلم ، أبي هريرة ، جبريل عن هذه الآية : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله [ الزمر : 68 ] ، قال : هم الشهداء ، يبعثهم الله متقلدين أسيافهم حول عرشه ، فأتاهم ملائكة من المحشر بنجائب من ياقوت ، أزمتها الدر الأبيض ، برحال الذهب ، أعنتها السندس والإستبرق ، ونمارقها من الحرير ، تمتد خطاها مد أبصار الرجال ، يسيرون في الجنة [ ص: 407 ] على خيول ، يقولون عند طول النزهة : انطلقوا بنا ننظر كيف يقضي الله بين خلقه ؟ يضحك الله إليهم ، وإذا ضحك الله سبحانه إلى عبد فلا حساب عليه . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل
وقال ابن أبي الدنيا : حدثنا أبو موسى إسحاق بن إبراهيم الهروي ، حدثنا القاسم بن يزيد الموصلي ، حدثني أبو إلياس ، حدثني محمد بن علي بن الحسين ( ح )
وروى أبو نعيم من حديث المعافى بن عمران ، حدثني إدريس بن سنان ، عن ، عن وهب بن منبه محمد بن علي ، قال إدريس : ثم لقيته فحدثني ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن في الجنة شجرة ، يقال لها : طوبى . لو سخر الجواد الراكب أن يسير في ظلها لسار فيه مائة عام ، ورقها برود خضر ، وزهرها رياط صفر ، وأقناؤها سندس وإستبرق ، وثمرها حلل ، وصمغها زنجبيل وعسل ، وبطحاؤها ياقوت أحمر وزمرد أخضر ، وترابها مسك ، [ ص: 408 ] وحشيشها زعفران مونع ، والألنجوج يفوح من غير وقود ، ويتفجر من أصلها السلسبيل والرحيق ، وظلها مجلس من مجالس أهل الجنة يألفونه ، ومتحدث لجميعهم ، فبينما هم يوما يتحدثون في ظلها إذ جاءتهم الملائكة يقودون نجائب من الياقوت قد نفخ فيها الروح ، مزمومة بسلاسل من ذهب ، كأن وجوهها المصابيح نضارة وحسنا ، وبرها خز أحمر ومرعزى أبيض مختلطان ، لم ينظر الناظرون إلى مثلها ، عليها رحائل ألواحها من الدر والياقوت ، مفضضة باللؤلؤ والمرجان ، صفائحها من الذهب الأحمر ، ملبسة بالعبقري والأرجوان ، فأناخوا لهم تلك النجب ، ثم قالوا لهم : إن ربكم عز وجل يقرئكم السلام ، ويستزيركم ; لينظر إليكم وتنظروا إليه ، وتحيونه ، ويحييكم ، ويكلمكم وتكلمونه ، ويزيدكم من فضله ، إنه ذو رحمة واسعة وفضل عظيم . فيتحول كل رجل منهم على راحلته ، ثم انطلقوا صفا واحدا معتدلا ، لا يفوت شيء منه شيئا ، ولا تفوت أذن ناقة أذن صاحبتها ، ولا [ ص: 409 ] يمرون بشجرة من أشجار الجنة إلا أتحفتهم من ثمرها ، ورحلت لهم عن طريقهم كراهة أن تثلم صفهم ، أو تفرق بين الرجل ورفيقه ، فلما رفعوا إلى الجبار تعالى أسفر لهم عن وجهه الكريم ، وتجلى لهم في عظمته العظيم ، فحياهم بالسلام ، فقالوا : ربنا أنت السلام ، ومنك السلام ، ولك حق الجلال والإكرام . فقال لهم ربهم عز وجل : إني أنا السلام ومني السلام ، ولي حق الجلال والإكرام ، مرحبا بعبادي الذين حفظوا وصيتي ، ورعوا حقي ، وخافوا بالغيب وكانوا مني على كل حال مشفقين . قالوا : وعزتك وجلالك وعلو مكانك ما قدرناك حق قدرك ، أدينا إليك كل حقك فأذن لنا في السجود لك . فقال لهم ربهم : إني قد وضعت عنكم مؤنة العبادة ، وأرحت لكم أبدانكم ، فطالما أنصبتم لي الأبدان ، وأعنيتم لي الوجوه ، فالآن أفضيتم إلي روحي ورحمتي وكرامتي ، فسلوني ما شئتم ، وتمنوا علي أعطكم أمانيكم ، فإني لن أجزيكم اليوم بقدر أعمالكم ، ولكن بقدر رحمتي وفضلي وطولي وكرامتي وعلو مكاني وعظمة شأني فما يزالون في المسألة والأماني والعطايا والمواهب ، حتى إن المقصر في أمنيته ليتمنى مثل جميع الدنيا منذ خلقها الله إلى يوم أفناها ، فقال لهم ربهم : لقد قصرتم في أمانيكم ، ورضيتم بدون ما يحق لكم ، فقد أوجبت لكم ما سألتم وتمنيتم ، وألحقت بكم ذريتكم ، [ ص: 410 ] وزدتكم أضعاف ما قصرت عنه أمانيكم " . وهذا مرسل ضعيف غريب جدا ، وفيه ألفاظ منكرة وأحسن أحواله أن يكون من بعض كلام التابعين ، أو من كلام بعض السلف ، فوهم بعض الرواة فجعله مرفوعا ، وليس كذلك . والله أعلم .